كانت الانتفاضة اللبنانية التي اندلعت في الشوارع في جميع أنحاء البلاد في 17 أكتوبر 2019 نقطة محورية للإحباطات الطويلة الأمد من نظام الحكم السيء والشعور الواسع بالفساد المستوطن. كان السبب المباشر للاحتجاجات هو سلسلة من الضرائب المقترحة التي وافق عليها مجلس الوزراء اللبناني السابق، كجزء من دفعه للتقشف وسط إعلان حالة طوارئ اقتصادية. من خرجوا إلى الشوارع رأوا هذه التدابير كتوجيه ضربات لطبقة سكانية تعاني بالفعل اقتصاديًا، وبدلاً من ذلك وجهوا غضبهم نحو الطبقة السياسية التي منذ انتهاء الحرب الأهلية كانت تتولى العجز المالي المتزايد والدين العام للبنان. من بين المطالب التي ظهرت من الشوارع عبر شهور من الاحتجاجات كانت الدعوة لاسترداد الأموال العامة المسروقة وتجميد أصول السياسيين اللبنانيين في الخارج. ومع ذلك، فإن استرداد هذه الأصول ليس عملية بسيطة.
من الصعب حساب الحجم الكامل للعائدات غير المشروعة من الممارسات الفاسدة. مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة (UNODC) يقدر أن مبلغ المال المغسول من خلال الأنشطة الفاسدة أو الإجرامية في العالم يتراوح بين 2 إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويحسب على أنه ما بين 800 مليار دولار إلى 2 تريليون دولار سنويًا في وقت التقدير. وتشير UNODC إلى أنه على الرغم من أن الفارق شاسع لكنه حتى في أدنى مستوى منه “يبرز جدية المشكلة.”
المتورطون في الأنشطة الفاسدة لديهم استراتيجيات متنوعة لإخفاء أصولهم المكتسبة بطرق غير مشروعة. يمكنهم بشكل غير قانوني—أو قانوني—تحويلها إلى أشكال متعددة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: العملة الصعبة أو الإلكترونية، الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، الأسهم، والشركات الخارجية. هذه التحويلات تزيد من تسهيل تداولها عبر ولايات قضائية متعددة، بينما يستخدمون أسماء مالكين مختلفين لتمويه مصدرها الحقيقي. وهذا يجعل من الصعب على وكالات إنفاذ القانون تعقبها، تتبعها، ومصادرتها قانونيًا. تتطلب عملية التعقب وتحديد هذه الأصول وقتًا طويلاً بسبب التحقيقات القانونية الطويلة والمكلفة، التي تتطلب بدورها أن تكون لدى الولايات القضائية ذات الصلة وصول مفتوح إلى السجلات العامة مثل سجل المحكمة، وسجلات الشركات والأراضي، والسجلات الجمركية، وحسابات البنوك. يجب أن تحدد هذه التحقيقات العلاقة السببية بين الجريمة (الجرائم) والفاعل (الفاعلين)—وتؤدي إلى المحاكمة واسترداد الأصول.
تتطلب المساعدة القضائية الفعالة عبر الحدود اتصالات شفافة وفعالة؛ مما يعقده الفروقات، في كثير من الحالات المعقدة، بين العمليات القانونية والمصطلحات عبر ولايات قضائية متعددة. كما يعوق كفاءة عملية استرداد الأصول نقص القضاة المؤهلين وذوي الخبرة في سلطات الدولة، وكذلك غياب وكالات النقاط المحورية وشبكات المساعدة المحلية والدولية. ولتجاوز هذه التحديات، فإنه من الضروري وجود أطر قانونية ومؤسسية وطنية قوية تتوافق مع التدابير الدولية والممارسات الفضلى —مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجرائم المنظمة عبر الوطنية.
للأسف، تشكل الأدوات القانونية لمكافحة الفساد ومكافحة تبييض الأموال في لبنان عدة عقبات خطيرة في عملية استرداد الأصول. قانون السرية المصرفية عام 1956 يمنع البنوك الوطنية من الكشف عن أي معلومات تتعلق بكتب البنوك أو معاملات المودعين أو مراسلاتهم، بما في ذلك السياسيين وأقاربهم. هناك مشروع قانون، لم يصوت عليه بعد في البرلمان، لتعديل القانون 154 (1999) بشأن الإثراء غير المشروع والذي يبلغ الآن تقريبا ثلاث سنوات، ومع ذلك لا يطالب القانون المعدل المنتظر من المسؤولين الحكوميين والسياسيين بالإفصاح العلني عن أصولهم بجميع أشكالها الموجودة داخل أو خارج لبنان. كما لم يتم تنفيذ قانونين يهدفان للسيطرة على أفعال الفساد ومنعها وتجريمها—وهما القانون 44 (عام 2015) بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والقانون 55 (عام 2016) بشأن تبادل المعلومات لأغراض ضريبية—بفعالية. ينص القانون 44 على أن لجنة التحقيق الخاصة (SIC) التابعة لمصرف لبنان (BDL)، البنك المركزي اللبناني، هي النقطة المحورية ضمن السلطة للاستيلاء على الحسابات المصرفية المشبوهة ومصادرة الأصول المنقولة وغير المنقولة التي يثبت أنها ناتجة عن أنشطة غسل الأموال. غير أن القانون لا يتحدث عن أي إجراءات عملية أخرى تنظم عملية استرداد الأصول—من مرحلة ما قبل التحقيق والتحقيق إلى المرحلة القضائية ومرحلة الإعادة. وقانون الوصول إلى المعلومات، الذي تطلب إقراره تقريبا عقدًا من الزمن من قبل البرلمان في عام 2017، واجه تحديات لا تنتهي في التنفيذ. على وجه الخصوص، يعيق قانون 28 اعتماده المترابط على لجنة وطنية لمكافحة الفساد (NACC) التي لم يتم إنشاؤها بعد. بالإضافة إلى بطء مرور الأدوات القانونية الضرورية لمكافحة الممارسات الفاسدة، فضلاً عن تقادم وعدم توافق القوانين اللبنانية مع التدابير الدولية التي صدقتها البلاد، هناك أيضًا ثقافة متجذرة من السرية تضعف كل محاولة للإصلاح وتزيد من تعقيد العقبات الناجمة عن نقص إطار قانوني واضح ومتكامل لاسترداد الأصول.
خلال ندوة جرت في بيروت في 26 يناير 2020 حول مكافحة الفساد والتهرب الضريبي واسترداد الأصول، صرح شارل براتز، قاض فرنسي متخصص في مكافحة الفساد واسترداد الأصول، بأن استقلال القضاء هو شرط مسبق لعملية استرداد الأصول الناجحة والفعالة. دعا جمعية قضاة لبنان، في 18 أكتوبر 2019، إلى الحجز المؤقت على حسابات جميع السياسيين والمسؤولين الكبار والقضاة وموظفي القطاع العام، بالإضافة إلى أفراد عائلاتهم، الذين تجاوزت ودائعهم 750 مليون ليرة لبنانية (500,000 دولار بسعر الصرف الرسمي). ولكن هذا لم يتحقق أبدًا، وخلال أكثر من خمسة أشهر مضت منذ اندلاع الاحتجاجات، لم تكن هناك أي اتهامات أو تحقيقات من القضاء لدينا بشأن الممارسات الفاسدة. تبقى أسئلة جدية حول ما إذا كان القضاء اللبناني، المعوق بنظام قضائي مسيس بشدة يفتقر إلى الاستقلال الأساسي، سيكون قادرًا على مقاضاة السياسيين الفاسدين والنجاح في استرداد الأموال المسروقة.
جانب آخر -ومتعلق- يجب مراعاته قبل بدء قضية استرداد الأصول هو التكلفة. غالبًا ما تكون هذه الأنواع من التحقيقات باهظة الثمن، حيث تشمل جميع أنواع التكاليف المحتملة أو المفاجئة -مثل توظيف خبراء إضافيين، وترجمة عدد كبير من الوثائق، وإدارة وصيانة الأصول المجمدة- وهو ما لا تستطيع لبنان حاليًا التعامل معه، نظرًا للأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية، والآن أزمات فيروس كورونا التي تتكشف في وقت واحد.
بالنظر إلى ما سبق، هناك سؤال جدي يجب الإجابة عليه: هل استرداد الأصول المسروقة من الخارج هو نقطة الدخول للبنان أم يجب أن تركز الجهود على سد الثغرات القانونية بطرق تمنع السياسيين من نهب وغسل الأموال العامة في المستقبل؟ بعبارة أخرى، يجب أن نسأل أنفسنا للمضي قدمًا ما إذا كانت الفوائد، أي كمية الأصول المستردة، ستفوق التكاليف، أي المال الذي تم إنفاقه طوال عملية استرداد الأصول.
الآراء والمواقف المعبر عنها في هذه المقالة هي آراء الكاتب/الكتاب ولا تعكس بالضرورة موقف جمعية الشفافية اللبنانية أو وجهات نظر تحريرية لمجلة إيكسكيتيف.