كل عام، تخسر الدول النامية بين 20 إلى 40 مليار دولار بسبب الرشوة وسوء استخدام الأموال والممارسات الفاسدة الأخرى. هذه الأفعال الإجرامية تستنزف مبادرات التنمية الاقتصادية، وتساهم في زيادة الفقر، وتأتي بتكاليف اجتماعية أخرى، مثل التأثير السلبي على التعليم وخدمات الصحة العامة. إحدى طرق مكافحة هذه الممارسات هي من خلال استعادة الأصول المسروقة من القطاع العام بواسطة الموظفين العموميين – سواء المنتخبين أو المعينين – ومعاونيهم. كيف تعمل هذه العملية، وهل يمكن أن تنجح في السياق اللبناني؟
تبدأ عملية استعادة الأصول بجمع المعلومات وتقفي أثر أصول الأشخاص المعنيين بهدف أول هو تحديد ما إذا كانت قيمة أصولهم متوافقة مع دخلهم المنتظم أم لا، ومن ثم تحديد موقع هذه الأصول. قد تكون هذه المرحلة الأولى بسيطة كالنظر في السجلات العامة، مثل السجل العقاري والسجل التجاري في لبنان، أو قد تشمل بحثًا أعمق يتطلب استخدام الخبراء للتحقيق الجنائي لتتبع الأصول، خاصة عندما تكون مخفية في هياكل معقدة في البلاد أو في الخارج.
بالإضافة إلى السجلات العامة في لبنان، يمكن أن تكون مصادر المعلومات القيمة هي التقارير والأفلام الوثائقية التي تنشرها المنظمات غير الحكومية أو الصحفيون، والمعلومات المقدمة من المبلغين عن المخالفات إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي ستتشكل قريبًا، والهيئات العامة الرقابية مثل التفتيش المركزي وديوان المحاسبة، والأهم من ذلك كله، هو التدقيق الجنائي الجاد لجميع الحسابات العامة.
من المهم جدًا تسليط الضوء على أهمية التعاون الدولي في جمع المعلومات وتتبع الأصول في هذه المرحلة الأولية من جمع الحقائق. على سبيل المثال، وزار المالية مُنحت صلاحيات خاصة للحصول على معلومات ضريبية من الكيانات والإدارات المالية والضريبية الأجنبية بموجب قانون 55/2016 المتعلق بتبادل المعلومات للأغراض الضريبية (على الرغم من عدم استخدام هذه الصلاحيات حتى الآن). يمكن أيضاً للجنة التحقيق الخاصة (SIC) في البنك المركزي التواصل مباشرة مع كافة السلطات اللبنانية والأجنبية لطلب المعلومات اللازمة والوصول إلى تفاصيل التحقيقات في بلدان أخرى، بموجب قانون 44/2015 المتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (وكانت لديها صلاحيات مماثلة تحت قانون 318/2001 لكن تم تحسين هذه الصلاحيات). يجب أن تكون هذه المرحلة من عملية استعادة الأصول سرية بشكل كامل.
بمجرد جمع المعلومات اللازمة وتتبع الأصول وتحديد مواقعها، تلي المرحلة الأولية من جمع الحقائق المراحل الأربع الأخرى لاستعادة الأصول —تأمين الأصول، العملية القضائية، تنفيذ الأحكام، واسترداد الأصول (انظر المربع أدناه)—كما هو مفصل في دليل استعادة الأصول التابع للبنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ضمن مبادرة استعادة الأصول المسروقة (StAR). ومن الجدير بالذكر أن جميع مراحل استعادة الأصول تتطلب التعاون الدولي.

استخدام الأدوات المتاحة
لدى لبنان كل الأدوات التشريعية اللازمة داخلياً ودولياً للبحث عن الأصول واستعادتها، على الرغم من أن بعضها يحتاج إلى تحسين وجميعها تتطلب الإرادة السياسية للتنفيذ. حتى الآن لم تكن هناك أي قضية رئيسية لاستعادة الأصول باستخدام أي من القوانين المذكورة أدناه، مما يثير تساؤلات جدية حول مستويات الفساد في لبنان وغياب استقلالية القضاء.
منذ البداية، يحظر قانون العقوبات لعام 1943 الرشوة واختلاس الأموال العامة والإثراء غير المشروع وسوء استخدام الوظيفة. كما لدى لبنان قانون 154/1999 بشأن الإثراء غير المشروع، والذي تم تحديثه مرة واحدة بالفعل في عام 2009. يحتوي هذا القانون على ثغرات جعلت تنفيذه مستحيلاً (مثل ضمان بنكي بقيمة 25 مليون ليرة كتقديم شكوى والخطر المتمثل في غرامة 200 مليون ليرة والسجن من ثلاثة أشهر إلى سنة للشخص الذي رفع الشكوى إذا تم إسقاط التهم)، وهو حاليًا يخضع لتعديلات جديدة. يمكن أن يخدم قانون 44/2015 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أيضاً، جنباً إلى جنب مع الصلاحيات الخاصة الممنوحة للـ SIC بموجب القانون (المفصلة أعلاه)، كأداة تشريعية قوية لاستعادة الأصول.
علاوة على ذلك، اعتمد لبنان مؤخرًا سلسلة من القوانين التي تهدف إلى زيادة الشفافية ومنع ومكافحة الفساد: قانون 55/2016 بشأن تبادل المعلومات للأغراض الضريبية (ومرسوم تنفيذه 1022/2017)، قانون 60/2016 بشأن الإقامة الضريبية، قانون 75/2016 بشأن الأسهم لحاملها (الأسهم التي يمكن نقلها بشكل مجهول)، قانون 28/2017 بشأن الوصول إلى المعلومات، قانون 83/2018 بشأن حماية المبلغين عن المخالفات، قانون 106/2018 بشأن تعريف الملكية الفعلية، قانون 175/2020 ضد الفساد في القطاع العام (والذي أنشأ أيضاً الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد NACI)، و الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أقرها مجلس الوزراء في 12 مايو 2020. ومن الجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى تحديثات قانون الإثراء غير المشروع، تتم أيضًا مناقشة تعديلات على قانون السرية المصرفية لعام 1956 في لجان البرلمان.
تم اعتماد هذه التدابير التشريعية، إلى جانب أخرى لم تُذكر أعلاه، من قبل لبنان كجزء من تنفيذ التزامات البلد تجاه المجتمع الدولي، حيث إن لبنان طرف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بالإضافة إلى اتفاقيات دولية أخرى تتعلق بالتعاون الدولي في المسائل الضريبية، مثل اتفاقية المساعدة الإدارية المتبادلة في المسائل الضريبية متعددة الأطراف (MAC) و اتفاقية السلطة المختصة متعددة الأطراف (MCAA) على التبادل التلقائي لمعلومات الحسابات المالية.
بالنظر إلى كل ما سبق، لماذا لا تزال عملية استعادة الأصول تحدٍ في السياق اللبناني على الرغم من الأدوات التشريعية الموجودة داخل لبنان والاتفاقيات مع الدول الأخرى؟
عقبات في الطريق
بالإضافة إلى التحديات المتأصلة في استعادة الأصول، لدى لبنان مشاكله الخاصة. يُعرف النظام القضائي اللبناني بعدم استقلاليته. هذه واحدة من العقبات الرئيسية أمام استعادة الأصول في لبنان. النيابة العامة اللبنانية، والشرطة القضائية، والقضاة التحقيق، والقضاة الجنائيون لديهم دور أساسي في التحقيق في جرائم الفساد وفي الإدانة والمصادرة والتعويض والتعاون مع نظرائهم في الخارج. استقلالية القضاء ضرورية لاستعادة ثقة المجتمع الدولي في لبنان ولبدء عملية استعادة الأصول بكفاءة.
العقبات الأخرى المتأصلة في البيئة اللبنانية هي غياب استراتيجية وطنية فعالة لاستعادة الأصول، الحصانات الدستورية من الملاحقة الممنوحة لرئيس الجمهورية، النواب والوزراء، والأهم من ذلك، نقص الإرادة الذي أظهرته الدولة اللبنانية حتى الآن فيما يتعلق بـ استعادة الأصول.
خارج هذه الخصائص الخاصة بلبنان، فإن عقبة شائعة تواجهها الدول الساعية لإطلاق عملية استعادة الأصول هي التمويل. استعادة الأصول هي عملية طويلة ومعقدة تتطلب التعاون عبر الحدود؛ وبالتالي، فإنها مكلفة للغاية. تتفاقم مشكلة التمويل وسط الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان، مع ذلك، يمكن التغلب على هذه العقبة من خلال، على سبيل المثال، إنشاء صندوق وطني لاستعادة الأصول الذي سيمول العملية ذاتياً من الأصول المستردة. يتم حاليًا مناقشة مشروع قانون لاستعادة الأصول في لجنة فرعية في البرلمان، مما يتوقع إنشاء مثل هذا الصندوق. يمكن لآخرين المشاركة في تمويل عملية استعادة الأصول، مثل المغتربين اللبنانيين والمجتمع الدولي، ولكن فقط إذا كانت العملية واعدة وأثبتت الحكومة وراءها التزامها بالعملية.
كانت هايتي ونيجيريا وكينيا وأوكرانيا والبرازيل، من بين دول أخرى، قادرة على استعادة الأصول بدعم من دول أجنبية مثل سويسرا. ومع ذلك، فإن العناصر الأربعة الرئيسية التي كانت حاضرة في كل مرة كانت فيها استعادة ناجحة هي: تغيير في النظام السياسي، إرادة سياسية تُترجم إلى تعزيز للهيئات والتشريعات المناهضة للفساد، الجمع بين الأدوات الرسمية وغير الرسمية للتعاون الدولي، وأخيرًا التسويات والاتفاقيات التي يتنازل فيها المسؤولون الفاسدون عن جزء كبير من الأموال المسروقة مقابل إعفاء جزئي أو كامل.
لقد جعلت الاتفاقيات الدولية جنباً إلى جنب مع الجهود التشريعية للدول الأجنبية مثل المملكة المتحدة وفرنسا وسويسرا من الممكن إعادة الأصول من خلال التعاون الدولي. ومع ذلك، لم يكن هناك حتى الآن أي محاولة جادة من أي حكومة لبنانية، الحالية أو السابقة، للشروع في استعادة الأصول. بغض النظر عن التحديات، تعد استعادة الأصول خطوة ضرورية على طريق تحقيق دولة لبنانية أكثر شفافية ومسؤولية — دولة تلتزم بممارسات تحول دون الفساد بدلاً من تمكينه.