كان ما كان، في أرض صغيرة شبه أسطورية، منعزلة عن بقية العالم على أقصى الشاطئ الشرقي للمحيط الأوسط، أُهدِي الناس قصة عن مجتمع صامد هم فيه أصحاب السيادة. كان الكثيرون سعداء عندما سمعوا قادتهم يعدونهم بأن أمنيات جميع سكان البلاد ستتحقق بالتأكيد. وكان الناس راضين لأن معظمهم كان يملك منزلاً صغيراً. كانت المياه شحيحة في الصيف والكهرباء أشد ندرة لكن كانت منازلهم مريحة والطقس كان جيداً. وكان القليل منهم يملك قصوراً.
استمرت تلك الخرافات لعدة دورات، ولكن، في يوم من الأيام، دمّر انفجار كبير أجزاء من عاصمتهم، ناهيك عن العديد من الأذهان. انهار اقتصاد البلد الصغير الذي كان يعيش بالفعل في حالة ركود بشكل سيئ وفقدت أموال الشعب العزيزة قيمتها. بعد ذلك بوقت قصير، اجتاحت البلاد حرب شرسة للغاية كشفت عن الفساد الحقيقي وعن عمق العدوانية المتخلفة لجيران الشعب المعادين. وهكذا انتهت فجأة الفترة التي عاش فيها مواطنو هذا البلد الصغير حلمهم في امتلاك منازل مهما كانت متواضعة بينما كان المستثمرون الطموحون قادرين على تحقيق رغباتهم بحرية من خلال تخزين ثرواتهم في قصور فخمة ومن خلال بناء أبراج سكنية فخمة جعلتهم أكثر ثراءً على الرغم من أنها لم تضف أي قيمة حقيقية للبلد. اختفى سوق العقارات.
أم أن توقعات العقارية لم تنتهِ فعلاً في الأراضي الصغيرة؟ في أيلول/ سبتمبر من العام 2025، قًدّم تقرير جديد عن قطاع العقارات في لبنان صادر عن بنك عودة، الذي كان في يوم من الأيام أحد أبرز البنوك المحلية، صورة عن سوق عقارات يشهد انتعاشاً تدريجياً. يبدأ التقرير ب “سجّل الطلب على العقارات [في الأشهر الستة الأولى من العام 2025] تحسناً ملحوظاً، وعاد إلى المستويات التي شهدها العام 2022 على الرغم من تأثير العوامل الأساسية الصعبة عليه.”
من منظورٍ استشاريٍّ اقتصاديٍّ تقليدي، يستحقّ الأمرُ التحقيقَ فيما إذا كان هذا التصريح وكذلك التقرير بأكمله، ينطويان على دلالاتٍ ملتبسة وتناقضاتٍ خفيّة ولماذا. غير أنّ، في إطار نقاشٍ أوسع بشأن تعافي الاقتصاد اللبناني، تستحقّ أبعادُ الملكية العقارية أن تُناقَش لا بوصفها مخزناً للقيمة ومجالاً للمضاربة فحسب. والمقاربةُ الرشيدةُ للملكية، من منظورٍ اجتماعيٍّ كُلّي يأخذ في الاعتبار كلاً من أهدافِ التنمية المستدامة للأمم المتحدة وعقوداً من الرؤى الاقتصادية المتعلّقة بالتمدّن، تفيد بأنّ التطويرات العقارية المستدامة التي لم تنل قسطاً وافراً من النقاش تمثّل روافعَ محتملةً لتعزيز التماسك الاجتماعي والإنتاجية الاقتصادية ضمن إطارٍ مطلوبٍ للتنمية الحضرية.
نهج السوق المستقر
يتبنى تقرير بنك عوده الجديد إلى حد كبير الرواية المتعلقة بالعقارات قبل الأزمة التي شكّلت محور اهتمام البنوك ومستشاري المبيعات في القطاع العقاري والمجلات التجارية لمدة 25 عامًا أو أكثر. ويكرر التقرير هذه الرواية المعروفة، حيث يغطي بشكل انتقائي اتجاه الطلب من ناحية أعداد المعاملات وقيمها، ثم ينتقل إلى مناقشة اتجاه العرض الحالية والمستقبلية استنادًا إلى بيانات تسليم الأسمنت وإصدار تراخيص البناء.
ويختتم التقرير بجزء يسلط الضوء على أسعار العقارات التي تجذب المستثمرين التقليديين في وسط بيروت والمناطق المجاورة. ويضيف التقرير نظرة اقتصادية-سياسية ترجح السيناريو المتفائل بين سيناريوهات متفاوتة ومنها المتفائلة ومنها ما بين التفاؤل والسلب ومنها السلبية. وبناءً على افتراضاتها الإيجابية في حال استقرار الأوضاع الأمنية مع وقف إطلاق نار دائم و” سيادة“الدولة على الأسلحة لمدة 12 شهراً على الأقل مع جهود إعادة إعمار شاملة واتفاق مع صندوق النقد الدولي وقانون لحل العجز المالي، من المتوقع أن يشهد لبنان نمواً في الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز عتبة ال 8 في المئة. وسيؤدي هذا النمو إلى ارتفاع أسعار العقارات ”بما لا يقل عن 20 في المئة“، مع انتعاش قطاع قروض الإسكان الذي سيكون بمثابة ”محفز كبير للسوق“.
ولكن، هل الانتعاش التدريجي للسوق هو قصة العقارات الأساسية في العام 2025؟ تحتل العقارات مكانة غامضة في مشهد لبنان الاقتصادي. فهي متجذرة بعمق في عقلية الأمة باعتبارها مخزنًا للقيمة ومشروعًا استثماريًا. من ناحية أخرى، هناك حاجة إلى حضرية ذكية وتطوير عقاري منتج من أجل العودة إلى الحيوية الاقتصادية. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الجوانب من موضوع العقارات غير مطورة بشكلٍ كافٍ. فهي لم تكن أبداً من أولويات الناس وتقارير السوق، ولم تؤدِ إلى اعتبارات صادقة للعدالة الاجتماعية والإنتاجية الاقتصادية. ويُعد أحدث تقرير للمقرضين عن سوق العقارات مثالاً على هذا التناقض.
من المؤكد أن السيناريوهات الاقتصادية الثلاثة الواردة في تقييم توقعات السوق الصادر عن بنك عوده تنطوي على أخطار متجهة نحو الارتفاع ونحو الانخفاض. لكن من وجهة نظر البنك، فإن قطاع العقارات، في جميع السيناريوهات المحتملة، ينطوي على قيمة بين المدى المتوسط والطويل. علاوة على ذلك، في حين يذكر التقرير أن أسعار العقارات في لبنان كانت لا تزال منخفضة عند نشره مقارنة بالوضع قبل الأزمة، يفسر المحللون ذلك على أنه يعني إمكانية تحقيق ”مكاسب رأسمالية كبيرة“ إذا ”أصبحت الظروف السياسية والاقتصادية داعمة تماماً“ لقيمة العقارات التقليدية وتسببت أيضاً في ”ارتفاع محتمل ملحوظ “ في أسعار العقارات.
عشرات الأسئلة المفتوحة
يبدو أنه عدم تغطيته في أي من السيناريوهات الثلاثة المذكورة أعلاه هو نموذج الاقتصادي الفعلي لتأثير السياسات أو التدابير الخاصة بقطاعات معينة. ومن أمثلة ذلك، لوائح تطوير العقارات وحوافز تطوير الإسكان الاجتماعي من قبل الدولة اللبنانية. لا يتم تقييم اللوائح الحالية غير المتوازنة بشأن العقارات والتطوير الحضري أو عدم وجود إصلاحات في ضريبة العقارات كعوامل مؤثرة في السيناريوهات المتوسطة أو السلبية. كما لا توجد أي توقعات بشأن تطورات سوق العقارات في السيناريو الإيجابي إذا تم بالإضافة إلى الاستقرار الوطني والجهود المالية الكلية وضع وتنفيذ استراتيجية وطنية عامة للإسكان وتحسين التخطيط الحضري.
والجدير بالذكر أن تقرير بنك عوده يتناول عرض قيمة العقارات المحلية على مدى السنوات الأخيرة قد انخفضت مؤخراً أو تآكلت بالفعل في حالة العقارات الفاخرة حتى وإن كانت محفوفة بالمخاطر. ولكن في حين يذكر التقرير صراحة ضرورة اتباع نهج جديد في سوق العقارات يركز على التنويع وتحسين الجودة وزيادة القدرة على تحمل التكاليف، فلا يقدم اقتراحاً استراتيجياً حول كيفية استثمار العقارات اللبنانية بشكل عملي لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة الجديرة بالاهتمام.
وهذا يطرح الكثير من الأسئلة. فقد نشرت وجهة نظر اثنان من دعاة التنمية الحضرية، في وجهة نظر نشرتها شركة الاستشارات ”بادل“ في أواخر العام الماضي حول أزمة الإسكان بعد ثلاثة أشهر من الحرب الأخيرة على لبنان، دعت بشدة إلى ”اتخاذ إجراءات فورية ومستمرة لتلبية الاحتياجات الإنسانية قصيرة الأجل ومعالجة أوجه القصور الهيكلية طويلة الأجل“. فهل يعني هذا أن الحكومة اللبنانية في حاجة إلى استراتيجية وطنية جديدة للإسكان والعقارات كأساس في عملية التعافي؟ أم أن العكس أفضل: هل ينبغي ترك تطوير نهج جديد وذكي ومستدام لإدارة وتطوير العقارات غير الفعالة لدينا بالكامل للجهات التجارية مع رهان المجتمع فعليًا على قدرة القطاع الخاص على التعلم ووكالته؟
يبدو ضعف المجتمع اللبناني أمام الفساد وعدم الكفاءة والأزمات المحلية والإقليمية والحرب قد تطور أيضًا إلى خطر حاد على سوق الإسكان والإنتاجية الحضرية المرتفعة. ألا ينبغي إذًا أن يُلزم الدولة بواجب تقديم ما هو أكثر بكثير من مجرد حوافز غير محددة لخلق فرص عمل في الريف، على سبيل المثال؟ وبعبارة أكثر إيجابية، هل يمكن أن توفر فرصة التحول في العام 2025 فرصة ذهبية للحكومة للتشاور مع مجتمع الأعمال والأوساط الأكاديمية المحلية من أجل تصميم استراتيجية وطنية للإسكان الاجتماعي، وتعزيز الإنتاجية الحضرية، والتنمية المتوازنة في هذا البلد؟
وفي هذا الإطار، يبرز الواقع المؤسف المتمثل في أن الخطط الإدارية والحكومية المتكررة بشأن التنمية الحضرية وتنظيم العقارات لم تنفذ أو فشلت حتى قبل الاستقلال. وتشمل عيوب سياسات الإسكان على مدى العقود التي أعقبت عام 1992، وفقاً لتعليق شركة بديلة، عدم وجود برامج إسكان عامة وفشل تخصيص العقارات الشاغرة والأراضي الحضرية المملوكة للدولة لاستخدامات منتجة اجتماعياً. بالإضافة إلى ذلك، يشير العرض الزائد والأسعار المرتفعة بشكل مصطنع للوحدات السكنية في منطقة بيروت الحضرية إلى وجود سوق مشوهة.
في مواجهة بيئة ما بعد العام 2024 التي تتسم بالتفاوت الاجتماعي المفرط وفجوات العرض السكني، فضلاً عن التراكم الهائل في الإنتاجية الاقتصادية للبلاد، لا يستطيع لبنان تحمل استمرار النظام السكني المعطوب. ألا ينبغي، إذًأ، أن تكون استراتيجية وطنية للعقارات والبيئة من أجل الحماية وتطبيق أفضل الممارسات من بين الأولويات العاجلة لعام 2025 للحكومة الحالية؟ ألا ينبغي أن يُطرح الاستخدام الأمثل لأهم الأصول الطبيعية المؤكدة في البلاد أي في الأراضي والأصول المصطنعة المرتبطة بها من التراث الحضري، كمواضيع رئيسية لتوعية المجتمع؟ إذا كان الأمر كذلك، فيمكن للمجتمع ككل والمستثمرين الأقوياء على وجه الخصوص أن يتبنوا ضرورة إجراء إصلاح تنظيمي ومالي لقطاع العقارات.
