Home العقاراتالإنتاجية الحضرية في العصر الرقمي

الإنتاجية الحضرية في العصر الرقمي
ARENFR

الكفاءة الاجتماعية كفعالية اقتصادية

by Thomas Schellen

إنّ التجوّل في أحياء بيروت القديمة، وقيادة السيارة على الطرقات الريفية حيث يتلو كلّ منعطفٍ غير منطقيٍّ آخر أو المرور مشيًا بمحاذاة مشاريع عقارية عامة وخاصّة مشاريع من فئة«الفيلة البيضاء» لا تشي إلا بطموحاتٍ عقيمة ومجرّدة من الجدوى> كلّ ذلك من فوضى البلد النشاز كفيلٌ بأن يزعزع يقينَ حتى أكثر المتفائلين رسوخًا. ويبدو غير متصوَّر أن يفسح هذا النظام اللبناني العميق القائم على الإقطاعيات، المختلّ بحكم تصميمه، المجالَ لهياكل إدارية غير عُرضة للفساد، أو لنظامٍ ضريبيٍّ يُعطي، عبر فرض الضرائب على الأرباح والدخول الريعية، أولويةً لالتقاطِ حصةٍ من المكاسب الاقتصادية لا تتّسم بالرجعية الضريبية.

ومع ذلك، وفي ظلّ نظامٍ ضريبي لبناني أخلاقي وفعّال يُعاد تشكيلُهُ بما يلائم اقتصادَ العصر الرقمي ذي الأرباح المرتفعة من الأتمتة (بما في ذلك الذكاء الاصطناعي) ومن الإنتاجية الحضرية (بما في ذلك تصدير الخدمات)، لا يسع المرء إلا أن يتجرّأ على تصوّر نظامٍ ضريبيٍّ يلتقط ويعيد توزيعَ جزءٍ من المكاسب الاقتصادية التي يحقّقها المهنيّون ومالكو العقارات بوصفها «ريعًا» غير مستحق منافعَ ريعيةً مجانية من أنشطتهم الاقتصادية في منطقة بيروت الحضرية الكبرى. ذلك إن أردنا الحديث بجدّية عن التعافي الاقتصادي الوطني.

المكوّن العقاري في الإنتاجية الاقتصادية
على خلفية ما وُثّقَ على المدى الطويل من مواطن القوة والضعف في اقتصاد لبنان، يمكن للعقار ولا سيما العقار الحضري المنتج أن يكون إمّا عاملَ تمكينٍ رئيسًا أو حاجزًا مدمِّرًا في مسار التعافي الاقتصادي. ويُعتَقَد أنّ إنتاجَ خدماتٍ تنافسية قابلةٍ للتصدير وعاليةِ الجودة يستلزمُ امتثالًا واسعًا من السكّان لسيادة القانون باعتبارها منفعةً عامةً أساسيةً في مجتمعٍ معقّدٍ اقتصاديًا. وبالنسبة إلى فئات أصحاب المصلحة المستثمِرة في مجتمعها، فإنّ تجمع القوى العاملة إبداعًا وذكاءً في بيئاتٍ حضريةٍ لبنانيةٍ منتجةٍ يشكّل شرطًا آخر لازدهار الخدمات التنافسية القابلة للتصدير.

إنّ جمعَ الفئاتِ الثلاث من أصحاب المصلحة) 1) جميعَ الفاعلين اقتصاديًا المتمسّكين بسيادة القانون (2) والمهنيّين المبدعين والأذكياء (3) والملاكَ الفاعلين الذين يلتزمون مبادئَ تطويرِ الملكية وصيانتها على نحوٍ ذكيٍّ ومستدام—يقدّم حجّةً أخلاقيةً دامغةً لعدالةٍ ضريبيةٍ توزيعية. ففي نظامٍ كهذا، يُعاد تخصيصُ جزءٍ من المكاسب الاقتصادية التي يجنيها ملاكُ المدن والمهنيّون إلى جميع الفاعلين الاقتصاديين الذين يصونون ذلك الخيرَ العامَّ الجوهريَّ المتمثّلَ في “سيادة القانون”.

إضافة الى ذلك، تقدّم إعادةَ تصميم الضرائب العقارية من منظور الإنتاجية الحضرية حجّةً قويةً لنهجٍ ضريبيٍّ كفوء. إذ ينبغي اقتطاعُ جزءٍ من المكاسب الاقتصادية المتحقّقة للملاك والمهنيين وتوجيهُه للاستثمار في الاتصالية والبنى التحتية الصلبة وغيرها أو في إعادةُ توزيعه من خلال الدولة مع الحفاظ في الوقت عينه على عوائدَ اقتصاديةٍ عادلةٍ وجاذبةٍ لكلتا الفئتين. نظريًا، لن تكون مثل هذه الإجراءات الضريبية التي تعيدُ تخصيصَ شريحةٍ من مكاسبهم الاقتصادية ضارّةً بمصالح الملاك والمهنيين على المدى الطويل، بل داعمةً لها.

غير أنّ ثمة شواغلَ أكثرَ إلحاحًا اليوم في قطاع العقار وتنقسم على شقّين. أوّلًا، ترسّخُ ما يشير إليه التقريرُ الأخير لقطاع العقار الصادر عن بنك عوده بوصفه «أساسياتٍ صعبة»، والدمارُ الذي لحقَ بالمخزون البنائي للبلاد في العام 2024. ثانيًا، وبسبب هذين الشقّين من الاختلال والحربُ أشدُّهما وطأة، بات المشهدُ العقاريّ على امتداد معظم، إن لم يكن جُلّ، الأراضي مثخنًا بالجراح وملتبسَ المعالم.

وتشمل المشكلات البنيوية في سوق الملكية اللبناني غيابَ القروض السكنية من المصارف التجارية حاليًا، إلى جانب ارتفاع الطلب على السكن الميسور، في مقابل مخزونٍ بنائيٍّ حضريٍّ كبير إمّا شاغرٌ بدافع التوقعات، وإمّا متداعٍ إلى حدٍّ لا يصلح معه للسكن. كما تساهم الأنظمةُ المتقادمة وقوانينُ الإيجاراتِ القديمة في تعقيد هذه العمليّة.

وليست نادرةً التصوّراتُ المغلوطة المشحونةُ بالديماغوجيا حولَ الوقائع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان. وفي تفسيرٍ يقدّمه بنك عوده للمشكلات البنيوية في الاقتصاد ولانعكاساتها على المشهد العقاري الوطني، يشير إلى ضعفِ خلقِ فرص العمل في الريف وإلى «زيادةٍ مستمرة» في معدل التمدّن.

لكن، وفقًا لموئل الأمم المتحدة (UN‑Habitat) ووفقًا لموقع وWorld Population Review المتخصّص في الإحصائيات العالميّة، فيتجاوز معدلَ التمدّن في لبنان المتوسطاتِ العالميةَ منذ خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي. وقد أخذ هذا المعدّلُ بالتسطّح بوضوحٍ خلال الأعوام العشرين منذ العام 2005، وبلغ تقديريًا 89.4 في المئة في العام 2023 (المرتبة 21 عالميًا)، فيما انحسر مسارُه حول عتبة 90 في المئة وهو ما ينعكسُ في انكماشٍ طفيفٍ يقدّر بحوالي 1.23في المئة خلال الفترة الممتدة بين العامين 2020و2025.


التمدّن: لا وصفةً سحريةً ولا نذيرَ هلاك

على الرغم من أنّ معدلَ التمدّن عالميًا ارتفع من 34 في المئة في عام 1960 إلى 58في المئة في العام 2024، وهو عاملٌ قادرٌ على تعزيز الإنتاجية كما يمكن أن تكون له كُلفٌ اجتماعيةٌ وبيئية، فإنّه عاملٌ لا فِكاكَ منه. فقد جعل انتقالُ الناس من الريف إلى المدينة ونموُّ السكان في لبنان تحويلَ الأراضي تدريجيًا إلى فضاءاتٍ مستقرةٍ أمرًا لا مفرّ منه؛ غير أنّ هذا المسار كان ضعيفَ التنظيم ولم يُوَجَّه حتى الآن نحو الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية.

وتسود حالةٌ من عدم اليقين بشأن الحجم الحقيقي للمخزون البنائي في لبنان. فنتيجةَ الاضطرابات العديدة التي شهدها البلد خلال العقود الخمسة الماضية، تبدو العواملُ الاجتماعيةُ الدافعةُ إلى التمدّن والهجراتِ الداخلية داخلَ لبنان، فضلًا عن الحركاتِ البشريةِ العابرةِ للحدود إقليميًا، أكثرَ تعقيدًا وصعوبةً في التقييم.

وكما يذكر تقريرٌ لموئل الأمم المتحدة في العام 2011، فإنّ التمدّن كان بلا هوادة منذ ستينيات القرن الماضي، و«حصل التوسّع الحضري في لبنان من دون أيّ استراتيجياتٍ أو خططٍ مُرشِدة، ما دَمَجَ المدنَ في تكتلاتٍ عمرانيةٍ كبرى وهدّد الأراضيَ الصالحةَ للزراعة والتنوّعَ الحيوي وخلق مشكلاتٍ في النقل وحركةِ المرور وزاد من تحديات توفير البنية التحتية والخدمات.”

وقد فاقمت سنواتُ الأزمات في عشرينيات هذا القرن الوضعَ إلى حدٍّ باتت فيه فجواتُ التنمية بين الريف والمدينة تُهدّد لبنان إلى جانب تبِعاتٍ أخرى للأزمة وعبءِ اللامساواة المتزايد الناجم عن الحرب.

ثمة نقطةٌ أخرى جديرةٌ بالتأمّل في الارتفاع الأخير لاتجاهات العرض في سوق العقار، وهي التغيّرات في التوزيع الجغرافي لرُخَص البناء الصادرة في الأشهر الستة الأولى من العام 2025. فمقارنةً بين التوزيع الإقليمي لهذه الرخص في هذه الفترة ونظيرتِها قبل عشرة أعوام، في النصف الأول من العام 2015، تظهر تراجعاتٌ وارتفاعاتٌ مفاجئةٌ عدّة في التوزيع الجغرافي للرخص. وكان أشدّ الانكماشات في الإصدارات من نصيب شمال لبنان الذي يضمّ ثاني كبرى مدن البلاد وهي طرابلس. ففي المقارنة العَشْرية، هبط الشمال من المرتبة الثانية إلى المرتبة الأخيرة في حصته النسبية من إجمالي الرخص أي من 18.8في المئة إلى 1.1في المئة. وكانت حصةُ رُخَص البناء هذا العام جزءًا يسيرًا قياسًا بحصة الشمال السكانية البالغة 20في المئة. في المقابل، برزت زياداتٌ في حصص الإصدار في المناطق الثلاث عينها التي تحملت عبءَ الحرب الأكبر من العام الماضي: ارتفع معدّل النبطية من 8.7في المئة إلى 11.4في المئة وقفز البقاع من 8.4في المئة إلى 12.1في المئة وتضاعف معدّل جنوب لبنان أكثرَ من مرة أي من 11.7في المئة إلى 25.4في المئة.

وبين هذه المناطق الثلاث الأخيرة (التي سيربطها معظمُ الناس بمزيجٍ من البيئات الريفية والحضرية) مُضافًا إليها شمال لبنان، تُشكِّلُ 50في المئة من رُخَص البناء خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام. أمّا الخمسون في المئة الأخرى من رخص النصف الأول من العام عينه، فصدرَت عن المحافظتَين الأقل تضررًا بالحرب وهما بيروت وجبل لبنان. ومع ذلك، عند مقارنة أرقام بين العامين 2015 و2025، كانت الفروقاتُ في الحصص المئوية للرخص أقلَّ بكثير. فبقي جبلُ لبنان في صدارة المناطق من حيث عددِ الرخص الممنوحة، وشهدت بيروت التي على الأرجح أكثرُ المحافظاتِ حَضَريةً في لبنان، انكماشًا طفيفًا يقدّر ب 0.3 نقطةٍ مئوية. وقد استقرّت حصتا الإصدار في هاتين المنطقتين في النصف الأول من العام 2025 عند حوالي 45 في المئة بصورةٍ شبه مطابقةٍ لعام 2015 وهي 5 في المئة.

وهذا يطرح سؤالًا في غياب بياناتٍ أكثر تفصيلًا عمّا إذا كانت القفزةُ البالغة 16.1في المئة في الإصدارات ستنعكس زيادةً صافيةً مستقبليةً في المخزون السكني. وقد أظهر تقريرُ بنك عوده للعقار أنّ التباين العَشْري في قيمة معاملات بيع العقارات بين النصفين الأولين من عامَي 2015 و2025 كان من حيث النِّسَب أي ما بين 3 و4في المئة، أو ما دون، بين المحافظات.

فضلًا عن ذلك، فإنّ أعدادَ رُخَص البناء في النصف الأول من 2025 والنصف الأول من العام 2024، والبالغة ما بين 2,500 و3,000 رخصة، تبقى قياسًا على أساسٍ سنوي وأدنى بكثيرٍ من 7,500 رخصةٍ صُدرت في العام 2022 بكامله؛ وهو عامٌ كان بحدِّ ذاته جزءًا من قاعٍ متعدِّد السنوات بالنسبة للبنّائين والمطوّرين. ووفق بيانٍ صحفيٍّ لبنك بيبلوس في تشرين الأول/أكتوبر 2020، فإنّ الطلب العقاريَّ المستقبليَّ المسجَّل في الربع الثاني من ذلك العام عكس انكماشاتٍ كبيرةً ليس فقط ربعًا على ربعٍ وسنةً على سنةٍ في نيات شراء المنازل، بل شكّل أيضًا أدنى مستوى سُجِّل خلال الأعوام الثلاثة عشر التي أنتج فيها المصرفُ مُؤشِّرًا لطلب العقار. ففي الأشهر الثلاثة الأخيرة قبل وقف المؤشر في صيف العام 2020، لم يُجِب إلا 1.1في المئة من المقيمين في لبنان بالإيجاب عمّا إذا كانوا يعتزمون شراءَ أو بناءَ مسكنٍ خلال الأشهر الستة التالية.

وقبيل الصدمة الهائلة لانفجار مرفأ بيروت بقليل، كانت مؤشراتُ الطلب قد هبطت أصلًا إلى أقلّ من 20في المئة من المتوسط المتعدِّد السنوات المقاس منذ العام 2007، أي بانخفاضٍ يقارب 90في المئة عن ذروة خطط اقتناء المساكن خلال تلك الفترة. ووفق البيان الصحفي ذاته، «بلغت نسبةُ من كانت لديهم خططٌ لشراء أو بناء وحدةٍ سكنيةٍ في البلاد، في المتوسط، 6.4في المئة بين تموز/يوليو من العام 2007 وحزيران/يونيو من العام 2020، وبلغت هذه النسبة ذروتها قرابة 15في المئة في الربع الثاني من العام 2010.”

ومهما تكن العواملُ التي دفعت إلى الارتفاعات الطفيفة في إصدار رخص البناء خلال النصف الأول من هذا العام، فإنّ حيويةَ السوق العقارية واستدامتَها في العام 2025 لا تبدوان مقنعتَين إذا ما قيسَتا بأيامِ الازدهار لبناء المساكن بعد الحرب (أي خلال العقدَين الذَين يتراوحان بين 1992و2012)، حين تجاوزت الذروةُ 12,000 رخصةٍ سنويًا في مطلع العقد الثاني من الألفية.

وقبل أن تتلاشى في أعقاب المحاولة الكارثية لمصرف لبنان توجيهَ الاقتصاد عبر سنواتٍ من جمود السياسات الحكومية، كانت صفقاتُ التمويل والقروضُ السكنيةُ المدعومةُ بحُزَمٍ تحفيزيةٍ من المصرف المركزي ربما قد ساهمت في تحسين أرقام نموّ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. غير أنّ القراءةَ ما بعد الأزمة لا بدّ أن تُشدّد على أهمّية إحكام سياسةِ العقار. ويبدأ ذلك بقوانينَ ملائمة، وتسجيلاتٍ عقاريةٍ عصيّةٍ على الفساد، ونظامٍ ضريبيٍّ عادل، وصولًا إلى توفير الحوافز، وضمانِ كلٍّ من حقوق الملكية وواجباتها ضمن إطارٍ أخلاقيٍّ وفعّال.

وبالنظر إلى تردّي حال المخزون البنائي وإلى أوضاع التشريعات والأسواق العقارية، قد تكون إشاراتُ المعروض المستقبليِّ أفضلَ من العام الماضي، لكنّ المشهدَ العقاريَّ العام لا يزال يخلّف انطباعًا قاتمًا.

You may also like

✅ Registration successful!
Please check your email to verify your account.