كشفت الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان عن تحوّل مدروس في استراتيجية إسرائيل العسكرية. يرسل الاستهداف المتعمد للبنية التحتية المدنية ومحاولات إعادة الإعمار كاستهداف الحفارات ومصانع الإسفلت وأشجار الزيتون وخلايا النحل رسالة واحدة وواضحة “لا عودة إلى جنوب لبنان”.
أظهرت الحكومة اللبنانية تدخلًا خجولًا في ما يخص جهود إعادة الإعمار بعد الحرب في الجنوب منذ إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي. واليوم، وبعد مرور عام تقريباً ووفقاً للسلطات اللبنانية تكون إسرائيل قد خرقت الاتفاق أكثر من 2500 مرة وعلى الرغم من ذلك لم تتخذ الحكومة أي إجراء وهو واقع دفع بالعديد من الجنوبيين إلى امساكهم زمام الأمور.
استهداف آليات ومصانع الإسمنت في المصيلح
تكشف الغارات الجوية الإسرائيلية المتصاعدة في تشرين الأول /أكتوبر 2025 عن هدف واضح يتمثل في عرقلة البنية التحتية وجهود إعادة الإعمار في جنوب لبنان. ففي الحادي عشر من الشهر عينه في بلدة المصيلح، تم استهداف وتدمير ست باحات تتواجد للآليات الثقيلة فيها جراء الغارات الجوية الإسرائيلية وقد شملت 300 مركبة مخصصة لإعادة الإعمار كالجرافات والحفارات والشاحنات ومداحل الطرق.
وعقب الهجوم، أصدر أحمد طباجة صاحب أحد المخازن المتضررة “شركة طباجة للمعدات” بياناً ندد فيه بالاعتداء مشيراً إلى أن هدف إسرائيل هو “منع إعادة إعمار البلدات والقرى في جنوب لبنان” مضيفاً أنه لا ينتمي أو يعمل مع أي طرف سياسي على عكس ادعاء إسرائيل بأنها تستهدف فقط عناصر “حزب الله”.
علاوة على ذلك، شنّ الجيش الإسرائيلي في 17 تشرين الأول/ أكتوبر إحدى أثقل غاراته الجوية منذ اتفاق وقف إطلاق النار حيث دمر موقعًا لتصنيع الإسفلت والإسمنت قرب بلدة أنصار في قضاء النبطية في محاولة أخرى لشل حركة إعادة الإعمار في جنوب لبنان. وقد أسفر هذا الهجوم الذي شمل 12 غارة جوية إسرائيلية بحسب ما أفادت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية إلى تدمير خلاطات الإسمنت والمضخات وخزانات الوقود والرافعات. وأفاد عمال الموقع بأنهم “خسروا جنى عمرهم”.
وقال عامل آخر في مصنع في بلدة أنصار لوسائل إعلام محلية: “هذه حرب على إعادة الإعمار. هذه حرب على أهل الجنوب… سيضربون كل شيء يتعلق بإعادة الإعمار وهذه مجرد بداية والآتي أعظم.”
شلل عنصر إمدادات المياه الأساسي
استهدفت إسرائيل في اليوم عينه المياه التي تشكّل أحد أهم المصادر الأساسية لمعيشة كل مواطن جنوبي. فقد تعرض مستودع وقود تابع لـمؤسسة مياه لبنان الجنوبي التي تشكّل المصلحة العامة الرسمية المسؤولة عن توزيع المياه في جميع أنحاء جنوب لبنان لضربات جوية إسرائيلية ما أسفر عن خسارة أكثر من 500000لتر من الوقود.
أدّت الهجمات الإسرائيلية على مصادر المياه الأساسية إلى حرمان 25 بلدة حدودية من المياه بعد تدمير شبكاتها بالكامل. ووفقاً لمؤسسة مياه لبنان الجنوبي، تُقدر كلفة الإصلاح بحوالي 100000000 دولارا أمريكيًا.
وصرح رئيس ومدير عام مؤسسة مياه لبنان الجنوبي الدكتور وسيم ضاهر لمجلة Executive: “لم يتوقف الأمر هنا.” وأضاف:” تضررت حوالي 25 محطة ضخ محلية و45 نظام طاقة شمسية استخدم لتشغيل هذه المحطات في الجنوب بالإضافة إلى محطات الضخ الرئيسية التي تزود بلدات متعددة بالمياه بعضها يخدم أكثر من 40 بلدة كمحطات الطيبة والوزاني ونبع الطاسة.”
وعلى الرغم من الجهود المتواصلة التي تبذلها مؤسسة مياه لبنان الجنوبي لتزويد المواطنين في الجنوب بالمياه والقيام بمهامها اليومية، فقد أثرت الحرب أيضاً على تنقل موظفيها وخاصة عمال الصيانة.
يقول ضاهر: “لقد ازداد الطلب على المياه في مناطق معينة شمال نهر الليطاني بسبب نزوح السكان من المناطق الواقعة جنوب النهر.” وأضاف: “تتطلب هذه الحالة ساعات ضخ إضافية وإنتاجاً مياه أعلى بالإضافة إلى إنشاء نقاط مياه موقتة في مراكز الإيواء بالتنسيق مع المنظمات والجمعيات الحكومية وغير الحكومية”.
يرى ضاهر أن نقص إمدادات المياه في الجنوب قد زاد من صعوبة عودة الناس إلى منازلهم بعد الحرب. ويوضح ذلك بقوله:” يؤثر هذا بشكل مباشر على حياة المواطنين وبالتالي يؤثر على قرارهم في العودة إلى بلداتهم واستئناف أنشطتهم خاصة وأن العديد من سكان القرى الحدودية يعتمدون على الزراعة”.
“فوائد الحكومة المعدومة”
ساهم شل البنية التحتية للمياه في ارتفاع أعداد النازحين المسجّلة. فوفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية واعتباراً من شهر كانون الأول /ديسمبر 2024، لا يزال حوالي 178817مدنياً نازحاً وغير قادر على العودة إلى منازلهم في جنوب لبنان.
لقد رفع حجم الدمار والنزوح الواسع من الحاجة المُلحة لدعم الحكومة ومؤسساتها وعلى الرغم من ذلك فإن الغياب شبه التام لهذا الدعم كان أكثر ما أثار إحباط الجنوبيين.
عندما سُئل أحمد حمادي وهو طاهٍ شاب من الجنوب تحاول عائلته إعادة بناء منزلها في الشبريحا عما إذا كانوا قد تلقوا أي مساعدة لعملية الإعمار ضحك وقال: “مساعدة من الحكومة؟ لم نتلق مساعدة من أحد فالحكومة وفوائدها معدومة. لقد دُمّر المنزل الذي عمل والدي طوال حياته لبنائه في قريتنا مارون الراس وكلفه حوالي 500,000 دولار أمريكي. وكنا نملك منزل آخر في الشبريحا وهي قرية قرب صور قد دُمّر أيضاً. كما دُمّرت شقتنا في الضاحية في منطقة الجاموس”.
تنتظر العائلة حالياً تصريحاً حكومياً للحفر في أرضهم بهدف إعادة البناء. يقول حمادي: “لا نعرف متى أو ما إذا سنحصل عليه فيبدو أن الحكومة تجعل الأمور دائماً أكثر صعوبة على الناس بدلاً من تسهيلها”.
وعندما سُئل عن سبب عدم قيام العائلة بالبناء في قريتهم الحدودية مارون الراس أوضح قائلاً: “الإسرائيليون لا يريدوننا أن نعيد البناء وهم لا يسمحون لنا حتى بحفر الأرض وإزالة الركام”.
العمود الجنوب الفقري البيئي
المنازل والمياه والطرق ليست الأشكال الوحيدة للبنية التحتية التي تستهدفها إسرائيل. فقد كانت البنية التحتية البيئية والزراعية للجنوب من أشجار الزيتون وخلايا النحل ضمن دائرة الاستهداف أيضاً. في حزيران/ يونيو 2025، جرفت القوات الإسرائيلية بساتين الزيتون في ميس الجبل. وقال رئيس البلدية في القرية لوسائل الإعلام المحلية: “إنهم لا يريدون أي علامات للحياة… بما في ذلك عمليات قطف الزيتون”.
أدى الاستخدام المتكرر للفوسفور الأبيض من قبل إسرائيل إلى قتل الآلاف من أشجار الزيتون. ووفقاً لتقرير صادر عن وزارة الزراعة اللبنانية وعن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا فقد دُمر أكثر من 53,000 شجرة زيتون في 53 قرية بين 6 تشرين الأوّل/ أكتوبر و24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. إن أشجار الزيتون للجنوبيين ليست مجرد مصدر دخل بل هي جزء من ثقافتهم وتراثهم البيئي.
يقول حمادي لمجلة Executive:” لقد كان والدي يزرع أشجار الزيتون بيديه العاريتين منذ 40 عاماً وخسر أكثر من 400 شجرة زيتون بسبب الضربات الإسرائيلية”.
لم يسلم النحل حتّى. تُفيد وزارة الزراعة اللبنانية بتعرض حوالي 3500 خلية نحل لأضرار كاملة أو جزئية مما يعرّض تربية النحل في المنطقة إلى خطر. ولا يقتضي الأمر بالنحل فقط بل أمسى أولئك الذين يعتنون بها أهدافاً أيضاً. ففي حزيران/ يونيو 2025، قتلت إسرائيل نحّالاً في قرية حولا.
“من الناس إلى الناس“
منذ بداية الحرب، فقد سكان الجنوب كل ثقة في الحكومة وفي مؤسساتها لمساعدتهم على التعفي. يساهم هذا العامل في التضامن القائم بين الناس ما يجعلهم يعتمدون على بعضهم البعض بشكل أكبر ويساعدون ويساندون بعضهم البعض من خلال المبادرات المجتمعية.
تأتي هذه المبادرات بأشكال مختلفة. ففي بلدة الرامية فرّ حسين صالح وهو ناشط وعضو مجلس بلدي إلى الشمال خلال الحرب وبدأ حملة شعبية ساعدت أكثر من 4000 جنوبي من خلال ما سماها “حملة الدولار الواحد”.
اسم الحملة مستوحى من مشروع التمويل الشهري “الليرة اللبنانية الواحدة” الذي أطلقه السيد موسى الصدر في أوائل الستينيات كجزء من عمله في الرعاية الاجتماعية في جنوب لبنان.
تهدف حملة الدولار الواحد إلى مساعدة الأشخاص الذين يعيشون في القرى الحدودية الجنوبية. يشرح صالح: “هي مخصصة للأشخاص الذين بقوا في أرضهم والذين يعيشون في منازل ذات النوافذ المكسورة والجدران المنهارة والأسقف الممزقة جراء الصواريخ الإسرائيلية. كونها حملة دولار واحد فقد شجّع الناس على المشاركة بشكل جماعي ودفع أكثر من دولار”. وهي تساعد في توفير الخدمات الأساسية مثل ألواح الطاقة الشمسية وترميم الزجاج والجدران والأسقف والأبواب قبل حلول فصل الشتاء. وتشمل الحملة مبادرات أخرى مثل جمع الأثاث غير المرغوب فيه وتوزيعه على المحتاجين من خلال وسائل صالح الخاصة.
ويضيف صالح: “تخيل فقط أن يعيش بعضهم قبالة الإسرائيليين دون حتى الحصول على الكهرباء. أنا لا أدعي أنني ‘أنقذت الجنوب'”. ويتابع: “الجنوب يحتاج إلى مليارات الدولارات لإعادة إعماره لكني أرفض الجلوس دون التصرف. أنا أهتم بالناس وكان لهذه الأعمال الصغيرة تأثيرًا إيجابيًا للغاية على حياتهم ومعنوياتهم”.
وفقاً لصالح، إن هذه المبادرة تمت “من الناس إلى الناس”.
لكن كم عدد حملات الدولار الواحد التي سيتطلبها الأمر لإعادة بناء الجنوب؟ في تقرير “التقييم السريع للأضرار والاحتياجات” الصادر عن البنك الدولي في آذار/مارس 2025، تُقدر تكاليف التعافي وإعادة الإعمار في جنوب لبنان ب 11 مليار دولار أمريكي مع الحاجة إلى 4.6 مليار دولار أمريكي لقطاع الإسكان وحده ويتركز معظمها في القرى الحدودية وقضاء النبطية.
استراتيجية الاستنزاف
بالإضافة إلى الخسائر المادية للمنازل والأحباء، ألحقت الحرب خسائر نفسية بسكان الجنوب. تشير الأدلة المعروضة أعلاه إلى أن نمط التدفق المتواصل من الهجمات ليس فقط من أجل السيطرة العسكرية بل تم تصميمه لتقويض معنويات الناس وقدرتهم على المقاومة. فقد تدهورت سبل معيشة الجنوبيين بشكل كبير بسبب الاستهداف المنهجي لمختلف أشكال البنية التحتية.
تشكل بلدة الرامية قرية صالح إحدى النقاط الخمس التي يحتفظ فيها جيش الدفاع الإسرائيلي بوجود عسكري غير قانوني. ويوضح أن ما يمنع الناس من إعادة البناء ليس الخوف بل المنطق السليم. ويقول: “كيف يمكنك إعادة البناء تحت الاحتلال؟ يدمر الإسرائيليون كل جدار نحاول بناءه ولكن على الرغم من ذلك تظل الناس في الجنوب صامدين ويستمدون قوتهم من المقاومة”.
ومع استمرار الهجمات بشكل يومي وتوقف الإعمار، يظل السؤال قائماً: إلى متى ستظل الناس في الجنوب صامدين وصبورين؟ ومتى ستتخذ الحكومة إجراءات وتمنح الأولوية لعودة الجنوبيين وسلامتهم من نيّات إسرائيل الواضحة في الاحتلال؟
