Home أسئلة وأجوبةأساسات تجاوز المراحل

أساسات تجاوز المراحل
ARENFR

مقابلة مع معالي الوزير فادي مكّي

by Thomas Schellen

بحسب الحكمة السائدة والدراسات العلمية، يعتبر الإنسان كائنٌ أسير العادة إلى حدٍّ كبير. يحسم اكتشاف المبادئ التي تُمكّن الأفراد والشركات من تغيير السلوكيات الراسخة وتطبيقها بشكل ات نرفع الإنتاجية نجاح التكيّف الاجتماعي ومنطق الاقتصاد أو فشلهما. وفي سلوك المؤسّسات في الديمقراطية، يبدو السعي إلى إنتاجية أعلى وإلى صلة أوثق بالمجتمع كالبحث عن حجر الفلاسفة لاستدامة الدولة، أو عن إكسيرٍ تحويلي يسهّل تبدّل السلوك المؤسّسي ويُسرّع وتيرة تقدّم الدولة ومؤسّساتها في خدمة سيّدها. ولعرض منظورٍ من الداخل إلى التحدّيات الراهنة التي يواجهها لبنان في هذا المضمار، أجرت EXECUTIVE مقابلة مع فادي مكّي، وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة.

عندما أُنشئ مكتب وزير الدولة لشؤون الإصلاح الإداري (المكتب) عام 1995، كان اسمه بحدّ ذاته يمثّل عنصرًا مهمًا في وضع القطاع العام اللبناني بعد النزاع على سكّة التنمية الصحيحة. ومن ثمّ ارتبط المكتب سريعًا في أذهان الناس بأنشطة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في دعم القطاع العام اللبناني. مقارنةً بدور الوزارة آنذاك، ما المختلف في المكتب الجديد اليوم؟

كما تعلمون، كان المكتب وزارةً مُسيّرة بالمشاريع. إن وُجد التمويل عملت المكتب، وإن غاب التمويل غاب العمل. لم يفكّر أسلافي يومًا في مأسسة المكتب. ففي أيام العزّ، تمتّعت بميزات مهمّة كالرشاقة والسرعة وجاذبية للتمويل. عملت على نحوٍ رائع في أزمنة الوفرة. لكن عندما حلّت الأوقات العصيبة، انهار كل شيء حرفيًا. في عام 2020 انهارت المكتب، وعندها أدركنا أنّ كان علينا بناء قدراتٍ والحديث عن الاستدامة والمأسسة. كانت الدروس كثيرة. لقد ورثت ما يشبه معبدًا منهارًا. لديه إرث وتاريخ. وله أيضًا نوعٌ من التفويض، لكنه [هذا التفويض] لم يُصدر بقانون أقرّه مجلس النواب. فهو ليس قانونًا فعليًا بل أنشأه مجلس الوزراء.

كانت مهمّتي الأولى عندما وصلتُ إلى هنا قبل أربعة أشهر إعادةَ تشكيل الفريق. نظرتُ إلى مَن لا يزال موجودًا، ومَن غادر ومن يمكنني إعادته وأين يمكنني استقدام موارد بشرية جديدة. وكيف يمكنني أن أكون مبتكرًا في تحصيل الدعم. هناك قدر كبير من الابتكار لأنّ للضرورة أحكام أي إنّ الحاجة أم الاختراع. كنتُ حريصًا على فتح مسالك مختلفة للعثور على الموارد. اكتشفتُ أنّ التطوّع مصدرٌ وفير. ويمكن تحقيق الكثير عبر نوعٍ من التدريب المتقدّم لطلبة الدراسات العليا من جامعات مرموقة. ويمكن السعي إلى إعادة تأهيل مَن بقي لدينا أي العشرات القليلة التي ما زلتُ تعمل في الوزارة. إعادة التأهيل المهاري لم تكن مطروحة من قبل. يمكنك أن تعيد التأهيل، وقد فعلنا ذلك. وفي الوقت عينه، تحتاج إلى تمويل. نحن الآن نستخدم منحًا من الاتحاد الأوروبي ومن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومن الألمان وغيرهم لدعم ما نملك، لكن من دون استبداله كاملًا. ما يميّزنا عن الماضي أنّنا لا نعتمد على أموال المنح فقط، بل نعيد التأهيل المهاري ونستعين بمصادر كالتطوّع ودعم الجامعات المجاني كما نُسهِّل سُبُلَ تحصيل تمويلٍ إضافي. وأخيرًا، نحاول الحصول على مصادر لبعض القروض بغية دعم المشاريع التي لا مالك لها وهو قرض البنك الدولي للتحوّل الرقمي.

إذًا ثمّة اليوم ثلاثة مصادر رئيسة لتمويل «المكتب”. أولًا، من خلال مسار عبر التطوّع والمساهمات المجانية وثانيًا عبر الأموال الممنوحة وأخيرًا من خلال التمويل بالدَّين؟ وفي التالي لا موارد من المصادر المالية المعتادة والضرائب؟

املك ميزانية صغيرة وهي الأصغر في مجلس الوزراء وتقدر بحوالي 600,000 دولار أدفعها للمستشارين. فلا يشكّل المكتب عبئًا على دافعي الضرائب ويشكّل الحصول على قرضٍ لتقنيات المعلومات والتكنولوجيا استثمارًا وليس [قرضًا تشغيليًا] لأنّ عائد استثماره مرتفع وسيُحرّك [التنمية] ويُعزّزها.

إلى أيّ مدى يعتمد حسابُك التشغيلي على التطوّع للصالح العام؟ فيشكّل هذا المفهوم أمر رائع شهدناه مثلًا في مبادرات المجتمع المدني لإنارة شوارع بيروت في أحلك أيام العام 2021. إلى أيّ حدّ تستطيع تنفيذ مهمّتك كوزارة محكومة بالمشاريع من خلال مساهمات المتطوّعين؟

بدرجة كبيرة. تضمّ وزارتي 37 شخصًا. هذا ما ورثته. يشكّل المحترفون من بينهم أي الحائزون على شهادات يشكلون ثلث الموظفين. لديّ فعليًا بين 10 و12 شخصًا علينا إعادة تأهيل مهاراتهم. ولديّ 20 آخرين من المتطوّعين أو من المموّلين من خلال المنح والتعاقدات ذات المحدودة. وفي النتيجة، تمكّنتُ بطرق مبتكرة من مضاعفة قدرتنا ثلاث مرّات. ومع ذلك فأنا أعاني [استنزاف رأس المال البشري]، إذ مع مزيدٍ من الأشخاص يمكنني الحصول على مزيدٍ من التمويل. [نحتاج إلى] أشخاصٍ يكتبون مذكّرات المفاهيم ويعدّون المقترحات. نلاحظ حسن النية لدى مجتمع المانحين لكن لا يمكننا أن نخبرهم بما نريد فحسب. فهذا النوع من الأخذ والردّ يحتاج إلى موارد [بشرية] متقدّمة أي إلى شخص قد أدار بعض المشاريع.

ما أهمّ مشاريعكم الحاليّة؟

يستنزف استيعاب التوظيف على المستويات العليا الجزءَ الأكبر من طاقتي. لديّ ثلاثة محاور: الأول هو الإصلاح الإداري الذي يضمّ توظيف الكفاءات العليا وجدول أعمال الإصلاح الفعلي بغية إعادة هيكلة الإدارة العامّة والثاني هو التحوّل الرقمي والثالث هو مكافحة الفساد. فتترابط هذه المحاور ببعضها البعض. فلا يمكن مكافحة الفساد من دون تحوّل رقمي ولا يمكن تحقيق ذلك من دون إعادة هيكلة الإدارة ولا تستطيع إعادة الهيكلة من دون توظيف خبراء على المستويات العليا للإشراف على الإصلاح الإداري. إنّه إطارٌ جميلٌ فعلًا أشرفُ عليه.

وكما ذكرتُ، يستنزف التوظيف على المستويات العليا معظم طاقتي، ببساطة لأنّ حجم الطلب على التوظيف هائل. ففي الأشهر الأولى كان لدينا شواغر لنحو 24 وظيفة [عليا] مقسّمة بين مجلس الإنماء والإعمار و«أوجيرو» وثلاث هيئات ناظمة وهي للاتصالات والطيران المدني والكهرباء والمجلس الأعلى للخصخصة والهيئة الناظمة لزراعة التبغ ومعرض رشيد كرامي وهيئة ناظمة للقنّب. كانت هذه كلّها مفتوحة. وقد أنجزنا مجموعتين من المناصب، فملأنا ثمانية مناصب في مجلس الإنماء والإعمار وواحدًا في «أوجيرو». و[قريبًا جدًا] ستكون لدينا أربع مجموعات من التعيينات لنعلنها، وهو عبءٌ مرتفع. وأنا أتحدّث اليوم ونحن نُشرف على ملء شواغر وشيكة في الهيئة الناظمة للكهرباء، والهيئة الناظمة للاتصالات، و[المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة]، وتلفزيون لبنان. وتشكّل حوالي 20 وظيفة على مستوى رفيع وكانت عملية شديدة المتطلبات.

نجتمع صباح كلّ يوم من أجل النقاش حول موضوع التوظيف على المستويات العليا حيث نتناول أهدافنا وقضايا مثل التقييم [للمرشّحين] والمقابلات والتباينات والحاجة إلى التحكيم وتنسيق الخبراء وغيرها. إنّها فعليًا عمليةٌ ضخمة وقد حاولتُ أن أقلّل انخراطي الشخصي لكن ثَمّة إطفاء حرائق لا يتوقّف.

هل لا تزال المحاصصة الطائفية جزء من عملية تعيين كبار الموظّفين؟

للأسف نعم. على سبيل المثال، قيل لنا إنّ رئيس مجلس الإنماء والإعمار من الطائفة السنّية، فكان علينا النظر في المرشّحين السنّة فقط. كان لدينا أكثر بقليل من 30 في المئة من المرشّحين من غير السنّة لكننا نظرنا إلى السنّة حصراً.

من ناحية رغبة المرشّحين المؤهّلين وفق خلفياتهم المهنية واستعدادهم، هل من فائضٌ في العرض أم في الطلب أي وفرةٌ من المرشّحين المتميّزين لكلّ منصب، أم عجزٌ حادّ في العثور على عددٍ كافٍ من المرشّحين المؤهّلين تقنيًا وشخصيًا والراغبين في العمل ككبار خَدَمَةٍ مدنيين للشعب اللبناني؟

ثمّة مؤشّرٌ لافت، هو عدد الأشخاص الذين يتقدّمون لمنصبٍ لم يكن «تقليديًا» مرتبطًا بطائفتهم. لديَّ هذا الرقم، وأودّ أن أراه يرتفع. فإذا كنتُ كاثوليكيًا ولا أتقدّم بالتالي لمنصبٍ مثل رئاسة مجلس الإنماء والإعمار الذي شغله تاريخيًا شخصٌ سنّي، فإنّ عدم تقدّمي إشارةٌ إلى قلّة ثقتي بالنظام، رغم سماعي رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء يعدان بالإصلاح ويتحدّثان عن إعادة توزيع المناصب. ننظر إلى هذا الرقم كمؤشّرٍ مهمّ على الثقة.

هل تتبنى حكم الجدارة؟

ضمن قيود. نعمل على أساس قواعد معيّنة. فعندما نُقيّم المرشّحين نُخفي معلومات الاسم والطائفة والجنس، بحيث لا يعرف المقيّمون من يُقيّمون. لكن، واقعيًا، على مستوى آخر، يمكننا النظر إلى عامل التصفية الطائفي. إنّ حكم الجدارة بمعنى أنّ الأسماء التي نُدرجها في اللائحة القصيرة هي الأفضل. لكن ليس دائمًا بوسعنا استقطاب الأفضل على الإطلاق من خارج [قنوات التوظيف الإلكترونية على منصّة «المكتب»]. لذلك نتساءل إن كنّا بحاجة إلى بعض الهامش للتنقيب المباشر عن الكفاءات.

هل تستخدمون أيّ أداةٍ للذكاء الاصطناعي في خلال هذه العملية؟

تلقّينا عرضًا مؤخرًا. لنفترض أنّ لدينا حوالي 640 مرشّحًا لمناصب في مجلس الإنماء والإعمار. ما نقوم به حاليًا هو التقييم بحسب عكس المتطلّبات الأساسية فقط، هل يستوفيها المرشّح أم لا ثم مرشّحٌ ثانٍ، فنحصل على الدرجة ثم على درجة الخدمة المدنية ثم على درجة ثالثة. إنّها عملية علمية حقًا. قالت لي شركة إجراء مقابلات وقالت إنّها تستطيع إنجاز ذلك في ساعة واحدة، فتوفّر ترتيبًا وتوصيةً من دون حاجة حتى إلى لائحة قصيرة، وذلك بناءً على إطار الكفاءات الذي نزّود بها لكنني لا أراه جاهزٌ بعد. يمكن نشره مع بعض التحقّق، لكنّي لا أظنّه قانونيًا تمامًا. وفي إطار الريادة، سأطلب إذن الناس بتجربة هذا الأمر فقط لتقييم ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يتوصّل إلى نتائج مماثلة للعملية الرسمية. لكن مبدئيًا، ينبغي الإفصاح عن حدود الذكاء الاصطناعي، وإدارة الانطباع عن استخدام أداةٍ من هذا النوع بعناية.

كما ذكرتُم، لم يكن هناك بناءٌ مؤسّسي حقيقي في المكتب خلال 25 عامًا من النشاط المحكوم بالمشاريع قبل انهيار العام 2020. لماذا؟

لا في المكتب ولا في مؤسّساتٍ أخرى. سأخبركم لماذا. كنتُ مستفيدًا. فقد كنتُ مديرًا عامًا في وزارة الاقتصاد بين العامين 2003 و2005، واستفدتُ آنذاك من المساعدة التقنية التي قدّمتها المكتب للوزارة، إذ ساعدتنا على إنشاء وظيفة التخطيط ورصد الأداء. أراد المكتب أن ننشئ وحدةً لذلك، لكننا لم نتمكّن من التوظيف في ذلك الوقت [بسبب وقف التعيينات في القطاع العام]، فلم نستطع رفض تلك الوحدة من الموظّفين. لذا لجأنا إلى «نقاط اتصال»، أي تكليف شخصٍ يقوم بأعمالٍ أخرى أن يكون مسؤولًا أيضًا عن تخطيط الأداء وهو غير مثالي. لا أحبّ مفهوم «نقطة الاتصال». وبعد نحو 25 عامًا، لا نزال نفتقر إلى وظائف التخطيط في كلّ وزارة. لا تزال إقامة هذه الوظائف من أولويّاتي. لكنّي أريدها عبر إنشاء وحدات. قد يبدو غريبًا أن نقول إنّنا نريد توظيفًا لرفد وحداتٍ جديدة في الإدارة، لكنّي لا أرى طريقًا آخر لبناء إدارةٍ عامة.

لم تَعُد الإدارة متخمةً كما كانت سابقًا. نحن نعمل اليوم بما يعادل 30 في المئة من القدرة اللازمة وأحيانًا هناك شواغر أكثر من ذلك. لذا لم يَعد جائزًا أن نتحدّث عن تنفيذ الإصلاح من دون إضافة موظّفين، بالتوازي مع إعادة تأهيل القوى العاملة القائمة والسماح بخروج مَن لم يَعُد ملائمًا.

في بيان المهمّة على موقع «المكتب»، ترتكز الركائز الثلاث إلى الحوكمة الرشيدة وبناء القدرات والتحوّل الرقمي. ومكافحة الفساد جزءٌ أصيل من الحوكمة الرشيدة، لكن تركيز المهمة الأصلية على بناء القدرات يوحي كأنّ المكتب كان في الماضي مكلّفةً ببناء القدرات من دون بناء قدراته المؤسّسية الذاتية. أليس في ذلك شيءٌ من التناقض المنطقي؟

نعم، كُلِّف المكتب ببناء القدرات من دون بناء قدراته الذاتية أوّلًا. كان ذلك قصورًا كبيرًا، ولذلك نحاول تفاديه عبر المأسسة وربّما تحويلها إلى وزارةٍ قائمة بذاتها، لا مكتب وزير دولة. فهي اليوم مكتب وزير دولة مكلّف بالإصلاح الإداري. ولكي يقول المانحون إنّها الوزارة الأهمّ، ينبغي أن تكون وزارةً للإصلاح الإداري. الكلّ يُدرك أننا في حاجة إلى إصلاحٍ مالي، لكننا في الوقت عينه في حاجة إلى إصلاحٍ إداري. لا يعود ممكنًا تنفيذ الحوكمة تنفيذًا صحيحًا من دونه. لذا آن الأوان لمأسسةٍ سليمة من داخل الوزارة بحيث تُصبح على قدم المساواة مع الوزارات الكبرى.

لقد نُفِّذ الإصلاح الإداري على أساسٍ تعاقدي من خلال تمويلٍ يأتي من هنا وهناك، لكن التعيينات الإدارية العليا باقية، وعلينا التفكير في شيءٍ ما: آليةٍ للتعاقد مع أشخاصٍ في مناصب رفيعة ولترقية مهاراتهم باستمرار ولتدويرهم ونقلهم. هذا التمويلُ الخاص بالموارد البشرية وهذه الاستراتيجية هما ما نحتاج إلى تفعيله أكثر فأكثر.

ذكرتم مرارًا مفاهيم بناء المهارات وإعادة التأهيل أو الارتقاء المهاري. وهذا يذكّرني بأنّكم وضعتم ورقةً ودراسةً كاملة عن «الجهوزية الإلكترونية» في العام 2003، وقد استنتج المكتب أنّ تلك الجهوزية متدنّية في الإدارة وغيرها. واليوم يبدو أنّ الجهوزية لا تزال متعثّرة، لكنّ المقصود بها في سياق المجتمع الرقمي يختلف تمامًا عمّا كنّا نعنيه سابقًا من معدّلات انتشار الخطوط الأرضية وبنى الاتصالات الأساسية. ماذا تعني حدّة التطوّر الرقمي وسرعته لمسعاكم في المكتب لإعادة تأهيل الناس؟ وإلى أيّ حدٍّ يصعب إعادة التأهيل؟

إنّها صعبة للغاية، لكنها تشكّل فرصة في الوقت عينه. لأنّ من الممكن «القفز عن المراحل». لقد فقدنا الكثير من [مواردنا البشرية الإدارية]. وبالتالي وأنا أتحدّث هنا عن الوظائف الإدارية الأساسية لم تَعُد الأعباء المالية [بحجم] ما كانت عليه. والمتقاعدون شأنٌ آخر، ولا أريد التطرّق إلى وضع المؤسسة العسكرية. فالإدارة «الصلبة» تكاد لا تُذكر [من حيث الكلفة] مقارنةً بالماضي. وهذه فرصةٌ ذهبية للاستثمار في [الموظّفين] الذين بقوا. نريد أن نزوّد مَن استمرّوا مهاراتٍ في التخطيط والتحوّل الرقمي ورصد الأداء وبعض المهارات التقنية.

وفي الوقت عينه، تريد إدخال عددٍ محدودٍ جدًا [من الأشخاصٍ الجدد]. لم تَعُد بحاجةٍ إلى «مخزونٍ» كامل. فهذا المخزون شاغرٌ اليوم بثلثيه. ومع ذلك لا نريد ملء كلّ شاغر. نريد تحويل الإدارة لتُصبح أكثر رشاقةً وأكثر تماسكًا لنبني وزارةً حديثة. وفي الوقت عينه، نريد [توظيفًا] لملء وحداتٍ إدارية جديدة لوظائف الموارد البشرية والتخطيط ورصد الأداء ووظائف التحوّل الرقمي. نحتاج إلى رسم خريطةٍ للإدارة وإعادة تأهيل بعض العاملين لملء الوظائف الجديدة وإجراء توظيفاتٍ لها والسماح لِبعض [الأشخاص] بالخروج من الوظائف القديمة. وفي الوقت عينه نريد إعادة هندسة [الخدمات الحكومية]. فالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يتيحان لنا فرصة القيام بذلك. فها هو «تجاوزٌ للمراحل» لأنّك لم تَعُد بحاجةٍ إلى أتمتة الإدارة كما هي. يمكنك بكل بساطة اختصار العديد من العمليات وتقليص الروتين. ومن منظور المستخدم، قد تكون هناك اختصاراتٌ عديدة في سلسلة قيمة الخدمات. إذًا التسلسل هو: إعادة الهيكلة ثم إعادة هندسة الخدمات وأخيرًا، ملء الوظائف الداعمة لهذه الخدمات.

لطالما دعى المكتب إلى «تجاوز المراحل»، لكنّ لم يُحسن لبنان ذلك على مدى الأعوام الثلاثين الماضية. ومصطلحٌ آخر رائج في الاستشارات المؤسسية هو «الدفع السلوكي» (Nudging)، وهو مفهومٌ روّجتم له سابقًا في مسيرتكم. فهل سيكون «الدفع السلوكي» أي دفع الناس بلطف إلى الامتثال للسياسات والسلوكيات جزءًا من استراتيجيتكم؟

ربّما لاحظتم من البيان الوزاري عند تشكيل هذه الحكومة أنّني تمكّنتُ من إدراج «العلوم السلوكية» ضمن المبادئ المؤسسة للإدارة. وأنا فخورٌ بإدخال هذا، إذا شئتم تسميته ك «قطعةً مني» في ذلك البيان. وهناك متّسعٌ كبير للدفع السلوكي والعلوم السلوكية في التوظيف على المستويات العليا، عبر إنشاء لائحة قصيرة تنطوي على ترتيبٍ ضمني للمرشّحين. فمع أنّها لائحةٌ قصيرة والوزراء حرّة في اختيار الاسم الرابع، إلّا أنّ الأمر يمسي أصعب قليلًا لأنّ عليهم عندها تبرير لماذا اختاروا الرابع وليس الأوّل. هذه طريقة لإعلام اللائحة القصيرة بالسلوك. وهناك حيّزٌ للعلوم السلوكية.

بل ثمّة متّسعٌ كبير للدفع السلوكي حتى في مكافحة الفساد، وسنُدرج هذه الجوانب في استراتيجيتنا الجديدة للفترة الممتدّة بين العامين 2026 و2030 التي نعمل عليها حاليًا. نحاول تغيير التصوّرات والمعايير الاجتماعية. فهناك انطباعاتٌ بوجود فسادٍ كبير، تجعل [الإدارة] حالةً ميؤوسًا منها. لكن تتبدّل التصوّرات حين تبدأ بتغيير ذلك الانطباع بالوقائع والأرقام عن عدد المتقدّمين [لوظائف الخدمة المدنية] ومستوى الثقة. علينا أن نعمل بأدواتٍ علمية نُغيّر بها التصوّرات وتبدأ السلوكيات بالتغير عندما تتغيّر التصوّرات.

في ما يتعلّق بالتعاون، لديكم تعاونٌ مع وزاراتٍ لبنانية أخرى، وكذلك مع المجتمع الدولي أو شركاء خارجيين. يسلّط نصف الأخبار على موقعكم الضوء على لقاءاتٍ مع هذا السفير أو ذاك الممثّل الدولي. من الواضح أنّ التواصل الخارجي مهمٌّ لـ«المكتب». ضمن هذا البناء للشبكات والتواصل، داخليًا وخارجيًا، ما هي أولويّاتكم؟

في لبنان، الأولويّات أفقية. عليّ أن أستعيد ثقة ثلاثة أطراف معنيّين. المجموعة الأولى هي المواطنون. عليّ أن أستعيد ثقتهم. فقد تخلّوا عنّا إلى حدٍّ ما، ويجب أن [أبني الثقة] خطوة بخطوة، مستخدمًا كلّ ما في متناولي من مؤشّرات وأرقام وأساليب علمية ودفع سلوكي بغية تغيير التصوّرات وتبديل السلوك. كما عليّ أن أستعيد ثقة مجتمع المانحين لأنّهم فقدوا ثقتهم فينا قبل نحو خمس سنوات التي شهدت أمورٌ كثيرة كالانهيار المالي والفساد وأزمة النفايات والثورة وجائحة كورونا وانفجار المرفأ. شهدنا تفكّكًا كاملًا في الخدمات الحكومية. ورأينا الدعم [المانح] يصب مباشرةً في منظماتٍ أخرى أو في الإغاثة الإنسانية لا في الإدارة العامة. نحن نحاول استعادة هذه الثقة. وثالثًا، علينا استعادة ثقة الوزارات الأخرى. وهذا بالغ الأهمية. لقد كانت المكتب بمثابة حاضنة ومبتكرة تحمل شعلة التحوّل الرقمي في الحكومة وتقوم بإعادة الهيكلة—وكلّ ذلك انهار قبل خمس أو ستّ سنوات. فذهبت الوزارات كلٌّ في طريقه. كلّ مَن تمكّن من تحصيل تمويلٍ ما بدأ عمليةً متجزأة وهذا بالغ الخطورة. لكن قبل أن أطلب منهم التوقّف عن ذلك والمجيء للتحدّث إلينا، أحتاج إلى قدراتي. أنا أبني قدرتي وأحرص على أن أسبقهم من دون أن أعطّلهم، لكن يجب أن أبدأ بوضع أطرٍ تنظيمية ومعايير ليَنضمّوا إليها وأن تبدأ الجهات والوزارات المختلفة بالتخاطب بعضها مع بعض وأن تركّب أنظمةً قابلة للتشبيك البيني. لقد صار واجبي الآن استعادة ثقة الوزارات. وإلا سنواجه تفكك ضخم وفوضوي ومجزّأ لمشاريعنا في الخدمات، ولا سيما في التحوّل الرقمي. وهذا يُقلقني لأنّه ضررٌ لا رجعة فيه.

وزارتكم بحكم التعريف معنيّةٌ بقضايا الجهات العامة والوزارات، من المساواة بين الجنسين في الإدارة إلى الحوسبة والأتمتة وتطوير المهارات، وعليه يفترض أن تمتدّ ا إلى كلّ وزارة في هذه الشؤون. أهذا صحيح؟

بالتأكيد. لكن ما نقوم به الآن هو التخطيط المركزي والتنفيذ اللامركزي. لن تكون المكتب يومًا فريقًا كبيرًا ووزارةً ضخمة، لكن ينبغي أن تكون لديّ وظيفةُ تخطيطٍ مركزي وفريقٌ يضع المعايير ويصدر الإرشادات ويُنشئ «وزاراتٍ نموذجية». يتوجّب توفير قدرٍ من المرافقة، لا التنفيذ. أمّا التنفيذ فيجب أن يكون لا مركزيا، لكن على نحوٍ منظّمٍ ومنتظم.

في سنوات ما قبل الأزمة، بين العامين 2018 و2019، كانت هناك وزارات مثل وزارة الاستثمار والتكنولوجيا أو وزارة شؤون المرأة، وكلتاهما برئاسة وزراء دولة. وفي العام 2025، نرى أدوار التحوّل الرقمي موزّعةً بين وزارة شؤون الاستثمار والتكنولوجيا الجديدة وكذلك وزارة الاتصالات. كيف يتعاون المكتب مع الأخيرة؟ وهل سيكون من الضروري إنشاء وزارةٍ للذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي؟

إن إنشاء وزارةٍ للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي واقعٌ قائم. والسؤال هو كيف نقلّص التداخل ونخلق مزيدًا من التآزر بيننا. الفكرة الأساسية أنّنا بحاجةٍ إلى جهةٍ ناظمة. فهل ستكون هذه الوزارة هي الجهة الناظمة؟ أم ستُنشئ جهةً ناظمة أخرى؟ لديَّ إشكاليةٌ مفهومية إذا كانت هناك وزارةٌ تنشئ جهةً ناظمة. علينا أن نكون مقتصدين أو فاعلين في عدد الكيانات التي ننشئها. يبدو مناسبًا أن يضطلعوا بدورٍ في وضع المعايير والمشورة التقنية. لكن ينبغي أن يتوقّف الأمر هنا. فأيّ إعادة هندسةٍ للخدمات وتصميمٍ لها يجب أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإصلاح الإداري وأن تبقى تحت «المكتب». وهذا منطقي وقد رأينا أمثلةً مختلفة عليه.

هناك نماذج ومسؤوليات مختلفة في ما يتعلّق بالتحوّل الرقمي في الإمارات والسعودية مثلًا. ولأنّ النماذج مختلفة، فمن الأفضل أن نتصوّر «سلسلة القيمة” وهي صنع السياسات والرقابة التنظيمية ووضع المعايير والتنفيذ والعمليات. ونحن نحاول أن نضمن وضوح ذلك. يجب أن يبقى التنفيذ داخل الوزارات. أمّا في التنظيم فعلينا النظر في تنظيم البيانات والأمن السيبراني والعديد من جوانب التكنولوجيا وواجهات برمجة التطبيقات والتشغيل البيني. هناك حيّزٌ لجهةٍ ناظمة للتكنولوجيا وحيّزٌ للبرمجيات الوسيطة أي البنية التحتية التي تربط كلّ الوزارات عبر منصّةٍ سلسة. غير أنّ إعادة هندسة الخدمات هي بوضوح من صلب ولاية «المكتب»، وكذلك بناء القدرات في الخدمات الرقمية، والتواصل مع المواطنين بشأن تحديث الخدمات، وأنتم أيضًا في القيادة حين يتعلّق الأمر بتعيين الهيئات الناظمة التي يُفترض مثاليًا أن تكون مستقلةً عن الوزارات؟

وهنا لديّ اقتراح. وزارة الاتصالات معنيّةٌ بالتحوّل الرقمي حيث تتولّى مراكز البيانات والاتصال. وهناك وزارة الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا وهناك «المكتب» وهناك وزارة الصناعة التي تشرف على «Colibat » للتواقيع الإلكترونية، فضلًا عن وزارة العدل التي تشرف على بعض مسائل التواقيع ووزارة المالية التي تنظُر في بوّابات الدفع والمصرف المركزي منخرطٌ أيضًا. ما نحتاج إليه نوعٌ من مجلسٍ أعلى أو مؤسسةٍ عُليا، تمامًا كما لدينا المجلس الأعلى للخصخصة. وقد حان الوقت لكي نجمع الجميع إضافةً إلى وزارة التكنولوجيا والجهة الناظمة و«المكتب» تحت مظلّة مجلسٍ واحد برئاسة رئيس مجلس الوزراء. شيءٌ كهذا سيكون أساسيًا للتنسيق.

في الإطار السعودي الذي ألمحتم إليه، يبدو أنّ الدور المحوري لوليّ العهد أمرٌ لا يمكن استنساخه بسهولة في لبنان.

لكن لدينا السلطة التنفيذية، لذا ينبغي لرئيس مجلس الوزراء أن يضطلع بدوره على هذا الأمر.

من منظور المنصب بحكم الوظيفة، بالتأكيد. لكن ديمومة المناصب القيادية تبدو مختلفة بين النظام اللبناني وأنظمةٍ حكوميةٍ إقليميةٍ أخرى، مع أسئلةٍ كثيرة حول أفضل الأساليب. وهذا يعيدنا إلى العلوم السلوكية وسؤال: لماذا يتصرّف البشر كما يفعلون؟ وإذا فكّرنا في حالةٍ سلوكية أخرى شهدها نظام حوكمة في قوّةٍ عالمية، وشغلت مؤخرًا عقول الناس في معظم البلدان: هل تؤدّي وزارتكم دور «إدارة كفاءة الحكومة»؟ هل أنتم «إيلون بيروت»؟

هل أنا وزارة كفاءة الحكومة؟ لم أصبح بعد. لكن في نهاية المطاف علينا التفكير في كفاءة الإدارة وفي أنّ لدينا ثلاث مجموعات [من الأشخاص] في الوزارات وفي الحكومة. أولّا مَن يريدون المغادرة وعلينا أن نوفّر لهؤلاء مبلغًا كريمًا. ثانيًا هم مجموعة الإدارة المجتهدة القابلة لإعادة التأهيل وعلينا الاستثمار فيها لا بإعادة التأهيل فقط بل بالتفكير أيضًا في رواتب أعلى. وهذا يصبح في الواقع مطبّق إذ لم تَعُد إدارتنا متخمة. وأخيرًا، هناك المجموعة الثالثة الآتية من الخارج وتحتاج إلى سلّم رواتب مناسب. هذا أمرٌ فيه عنصرٌ من وزارة كفاءة الحكومة. إذًا لم نصبح وزارة كفاءة الحكومة بعد، لكن في نهاية المطاف سنحتاج إلى الاضطلاع على كفاءة الحكومة.

ختامًا، وبالحديث عن الاستحقاق والقيود الطائفية، أودّ أن أضيف أنّ هناك بضع حالات قدّمنا فيها مؤخرًا لوائحَ قصيرة بمرشّحين لوظائف عليا إلى مجلس الوزراء. تضمّنت تلك اللوائح أسماءً لأشخاصٍ من طوائف مختلفة وستعتبر بداية فقط. حتى وإن تمّ اختيار مرشّحٍ من الطائفة عينها التي «تورّثت» هذا الدور سابقًا فإنّ مجرّد اختيارنا للائحة القصيرة إلى مجلس الوزراء بأسماءٍ لا تقتصر على المرشّح الكاثوليكي لرئاسة تلفزيون لبنان بل تشمل أيضًا الماروني، يُعدّ خرقًا. وهذا يضعنا بالفعل في منتصف الطريق نحو نظامٍ قائمٍ على الجدارة. وأنا سعيدٌ للغاية لأنّنا على الأقلّ في عددٍ من المناصب قدّمنا توصياتٍ [تخرج عن النمط التاريخي.

You may also like

✅ Registration successful!
Please check your email to verify your account.