في 4 آب 2020، تمزّقت بيروت. في أحياء الجميزة ومار مخايل التاريخية، لم تتوقّف الحياة فحسب؛ بل اختفت. هذه نظرة حميمة إلى أناس عاشوا الكابوس واختاروا البقاء وما زالوا يحاولون إعادة اعمار عالمهم بعد خمس سنوات.
الساعة 6:07 مساءً في 4/08/2020
كان حسن حمود يسقي النباتات أمام مطعمه «دار بيروت» في الجميزة حين وقع الانفجار في لمح البصر. قال: “دُمِّر كل شيء فجأة، ولم نفهم ما الذي جرى.”
أول ما خطر في بال حمود كان التأكد من أنه على قيد الحياة:” بدأت أتحسّس جسدي كلّه إلى أن لاحظت الدم ينساب من عيني.”
وفي طريقه عبر الجميزة والأشرفية بحثًا عن مستشفى لمعالجة إصابته، يصف حمود مشاهد القتلى والجرحى في الشوارع بأنها كابوس لا يُرى إلا في أفلام الرعب.
وعلى بُعد شوارع قليلة، كانت ريتا نصّار تُخرج القمامة. «طرتُ وصرخت كثيرًا، وكان الغبار خانقًا رأيت كل شيء مدمَّرًا». وفي داخل محترفها الفني، كانت الصلوات لا تزال تتردّد عبر الراديو.
أمّا الذين لم يكونوا في تلك الشوارع، فكانت العودة عبارة عن كابوسٍ. إلياس محفوظ، الذي دمّر الانفجار السوبرماركت الذي يملكه في الكرنتينا، عاد الى المحلّة مسرعًا من الشمال. قال محفوظ: “كان الدمار فظيعًا… لم أستطع الوصول إلى المتجر. كان المدخل مغلقًا، فدخلت عبر ثقب صغير.” فأخاه ووالده المقيمان في الطابق العلوي هما أوّل من خطر على باله. أُصيب كلاهما إصابة بالغة.
كان المشهد الفوري أشبه بفيلم رعب صامت، مختنق بالغبار ومضمّخ بالدم. وصفت باتريسيا بخّازي التي كانت في منزل عائلتها مع والدتها وشقيقتها المدينة بذهول: “في لحظة انقلب بيتنا رأسًا على عقب. تحطّمت النوافذ والأبواب بالكامل.”
اندفعت بخّازي إلى الشرفة مذعورةً تحاول فهم طبيعة الكارثة التي ضربت منزلها ضربة في ثوانٍ. «ما رأيته كان مرعبًا. المنطقة بأسرها مدمَّرة ومغبرّة والفوضى فيها عارمة». واضطرّت بخّازي ووالدتها إلى انتظار اليوم التالي من أجل معالجة إصاباتهما إذ كانت المستشفيات إمّا مدمَّرة أو عاجزة عن استقبال مزيد من الضحايا.
بسام غلام محامٍ من مار مخايل حيث تعيش عائلته منذ 300 عام، وصل إلى منزل والدته في مار مخايل مع لحظة الانفجار. “رأيت قتلى أمامي… مباني مدمّرة وأسطوانات غاز قد تنفجر في أي لحظة.”
تحطّم غلام عندما رأى سقف بيت العائلة على الأرض، ووالدته وأحد أقربائه مصابين.
المستجيبون الأوائل: شعب متروك
في الفراغ الذي خلّفته غيبة الدولة، كان المستجيبون الأوائل هم الجيران والغرباء وجيل من الشباب اللبناني الذي تعبّأ بين ليلة وضحاها.
وجد محفوظ صاحب السوبرماركت في الكرنتينا والذي كان محاطًا بخراب جهد عمره الخلاص فيهم. “بعد ثلاثة أيام، جمّعت موظفيّ… وبدأت مجموعات من الناس يحملون مواد تنظيف، تأتي إلى متجري للمساعدة. قدّموا لي الدعم وأنقذوني.”
“جاؤوا بالمكانس والدِلاء وبألواح النايلون لتغطية النوافذ المحطّمة وبعزمٍ مشترك صلب.”
وتستعيد بخّازي مشهد الخروج من الغبار فجأة وكأنهم خرجوا إلى الوجود وتقول: “كان الناس يأتون للمساعدة في إزالة الركام. كنّا نناديهم من الطرقات… وأغلقوا نوافذنا بالنايلون إلى حين إصلاحها.”
لم تكن تلك المساعدات من الرب، بل هي ثمرة تضامن نابع من الشعب وذلك هو الشيء الوحيد الذي نجح. قال غلام حقيقة بسيطة في بلد طالما خذلتْه مؤسساته الرسمية في الكوارث الكبرى: “فاللبنانيون يعاونون بعضهم بعضًا.”
بعد ثلاثة أيام من الانفجار، زار حمود مطعمه في الجميزة وهو يبكي ويشعر بالعجز، إلى أن عرض عليه المارّة مساعدته في رفع الركام من متجره. وصرّح: “مذهلٌ كم اندفع الناس إلى دعمنا.””
طريق العودة إلى الصفر الطويل والوحيد
كان التنظيف الجزء السهل؛ أمّا إعادة البناء فكانت سباقًا ماراثونيًا من اليأس في مواجهة انهيار اقتصادي وجائحة وعملة تهوي من دون كوابح.
بالنسبة إلى محفوظ، لم تكن اللحظة الأصعب لحظة الدمار، بل لحظة الإعمار: “رأيت أن كل جهدي قد ضاع. كنت أرمي برّادات البوظة وأجهزة التكييف… كيف سأعيد الكَرّة؟”
ومن دون كهرباء، خسر محفوظ عمله في الألبان. فكان الحل عملًا انفراديًا مضنيًا. “ثم جاءت الطاقة الشمسية. جلبتُ المعدّات بنفسي لاستخدامها في المتجر. نفّذتُها وحدي لتوفير المال.” ووجد وظيفة عبر الإنترنت خارج لبنان ليحصل على عملة صعبة كان مصرفه يمتنع عن إعطائها له. قال: “بدأت أنهض شيئًا فشيئًا”، لكن رأسماله كان قد تبخّر. “لم أستطع ملء أكثر من ثلث المتجر.”
وغدت الحسابات المالية غير واقعية. تكبّد مطعم حمود أضرارًا بقيمة 100 ألف دولار أميركي. «استدعيتُ مهندسة معمارية، وهي صديقة لي، وقلت لها إن لديّ 5 آلاف دولار لإصلاح المطعم.”
بدأ حمود إصلاح مطعمه بما تيسّر لديه من سيولة، فرمّم المطبخ وأدار خدمات التوصيل بمساعدة عدد قليل من الموظفين. قدّم له الزبائن تبرعات صغيرة وقدّمت المنظمات غير الحكومية دعمًا وفي نهاية المطاف أُعيد فتح المطعم.
وبدعم من منظمة غير حكومية، أعادت ريتا نصّار فتح فضائها الفني للأطفال الذين طالهم الانفجار أيضًا. ما زالت تمشي بحذر في الشوارع، غير أن الورشة غدت سببها للاستمرار.
وأعادت بخّازي وعائلتها بناء المنزل تدريجيًا، فثبّتوا النوافذ المكسورة بأغطية النايلون لتحمّل ليالي الشتاء وأصلحوا الجدران وفق القدرة.
واضطرّت عائلة غلام إلى الانتظار أشهرًا قبل أن تتمكّن من ترميم منزلها التاريخي في مار مخايل بدعم من منظمات غير حكومية والعودة إليه.
خريطة المدينة الجديدة: بين الحنين والخوف
تُعبّر ريتا نصّار عن حنين عميق وحزن على حيّها ما قبل الانفجار. “لا أحب الجميزة الجديدة. أحب القديمة… كانت الحِرف القديمة تعمل في الشارع؛ كان المكان جميلاً هنا.” وقد سرّع الانفجار تبدّلًا تتحسّر عليه: حانات وشقق Airbnb حلّت مكان مجتمع الحرفيين والأسر الممتدة.
وينظر بسام غلام إلى حيّ أُفرغ من روحه. «لم يعد إلّا 10 في المئة ممّن كانوا يعيشون هنا قبل الانفجار». وأظهر مسح عنقودي أُجري في العام 2023 من قبل Beirut Urban Lab أن نحو 25 في المئة من سكان المناطق الأشدّ تضررًا لم يعودوا إلى منازلهم.
وبالطبع، تبقى المخاوفٌ راسخةٌ. الأصوات المفاجئة أو ارتجاج الزجاج أو هدير الطائرات في السماء قد يطلق نوبات هلع. يعترف حمود:” لديّ نوع من الهلع.” «بدأ الزجاج من خلفي يهتزّ قبل ثلاث سنوات فقفزنا». وبخّازي لا تغادر المنطقة. “تُصيبني نوبة هلع إن سمعتُ صوت طائرة. لا أستطيع تحمّل الأصوات العالية.”
التعافي والصدمة المستمرّة
فهل تعافت بيروت؟ جواب أهلها موجع ووحيد: “لا”.
يقول محفوظ: “لم يتعافوا الناس. ولن يتعافوا كما يجب” وأضاف: «يتذكّر الناس ذلك كلّ يوم. وخصوصًا المصابين أو مَن فقد قريبًا. فكيف لهم أن ينسوا؟”
وتشعر بخّازي بأن الألم يزداد حدّة مع الوقت. “يزداد الألم مع كلّ عام … نحن لا نحبّ التذمّر وعلى أي حال لا أحد يصغي.” أمّا غلام، فأصعب ما يواجهه هو غياب المساءلة.
ومع ذلك، وفي قلب هذا الحزن غير المحسوم، غدا شعورٌ بالتحدّي وسيلةً للتعافي. لدى حمود، يتمثّل في حبّه لزبائنه الذين أصبحوا عائلة ثم منقذين. ولدى غلام، في ثقل التاريخ الكامن في حجارة بيت عائلته المشيَّد عام 1870. فيقول: “هذا بيت أجدادنا.” ويرى محفوظ، المحاط برفوف أعاد ملأها ببطء، متجره كطفل. ويصفه: «إن هذا المحلّ عزيز جدًّا، كأنه ابني.» وهو يدرك أنّ كارثةً أخرى ستكون النهاية، لكنه ما زال يزيد رأسماله ويأمل الأفضل
